مسئول سابق في جهاز الاستخبارات الأمريكية سي آي إي استمعت له يومًا يقول: نحن نحصل على مرتباتنا مقابل صحة ما نقدمه من معلومات
في مستهل عام جديد: صدق المتنبئون وإن كذبوا!
مسئول سابق في جهاز الاستخبارات الأمريكية سي آي إي استمعت له يومًا يقول: نحن نحصل على مرتباتنا مقابل صحة ما نقدمه من معلومات وتنبؤات.
لو طبقنا هذا الكلام حرفيًّا على كل توقعات السي آي إي، فإن صديقنا هذا وزملاءه ربما كانوا يقيمون الآن في مراكز إيواء المشردين لخيبة الكثير من توقعاتهم، فقد كان الفشل في التنبؤ بتفجر وتطورات الربيع العربي (لا علاقة للأمر بأكذوبة المؤامرة)، وقبله كان الفشل في منع هجمات سبتمبر، بالإضافة للفشل الأكبر في تأكيد مدير الوكالة الأسبق جورج تينيت على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وإن كنت أركز أكثر على الفشل الأخير؛ لأن الوكالة سمحت بتدخل السياسة في عملها، كما تهاونت في معاييرها القوية في التأكد من المعلومة، وقد حضرت منذ فترة لقاءً اجتماعيًّا غير رسمي في نيويورك للصحفيين مع بعض المسئولين ذوي الصلة، حين وقف شخص له علاقة قديمة بالوكالة متباهيًا أمام عدد من الزملاء بتلك المعايير، وأنهم لا يعتبرون بأي معلومة ما لم يتم توثيقها من مصدرين مختلفين على الأقل، فقلت له ساخرًا: صحيح .. تمامًا كما فعلتم مع أحمد جلبي، وضحك الرجل مستسلمًا لملاحظتي القاسية، والتي لم يفهمها كثير من الصحفيين الموجودين، والذين ربما لا يذكرون كيف اعتمدت الوكالة بشكل كامل على المعلومات التي قدمها لهم المعارض السابق أحمد جلبي الذي توفي مؤخرًا، في التأكيد على وجود تلك الأسلحة في العراق دون البحث عن مصادر أخرى.
ما أردته هنا هو رصد بعض نماذج الفشل في توقعات أكبر وكالات الاستخبارات في العالم لكي أقول، إن ما يحدث من فشل أحيانًا لا يعني أن هذه الأجهزة لا قيمة لها، وأعود هنا لذلك المسئول وقوله، إنهم يحصلون على مرتباتهم مقابل دقة معلوماتهم وصحة توقعاتهم، صحيح أننا نرى الفشل أمام أعيننا كبيرًا عندما يقع، لكن الحقيقة أن أغلب نجاحات هذه الأجهزة لا نعرف بها، والأمر ليس قاصرًا علي أجهزة الاستخبارات الأمريكية، لكنه يشمل كل تلك الأجهزة في أنحاء العالم، حيث لا نعرف الكثير عما تحققه، بينما يتجسد فشلها في كوارث نراها جميعًا على شاشات التليفزيون.
قد يتساءل القارئ الآن: وما هي الفكرة أو الهدف من ترديد هذا الكلام الآن؟ الحقيقة أنني أردت أن نبدأ به عامًا جديدًا، حيث لاحظت مدى تركيز بعض وسائل الإعلام العربية على الاحتفاء بالمنجمين وتنبؤاتهم لعام ٢٠١٦، كما يحدث كل عام، وأذكر أنني شخصيًّا شاركت في ذلك عندما استضفت أحدهم بتكليف من المسئولين في إذاعة الشرق الأوسط في فترة الثمانينيات، المشكلة هنا، بصرف النظر عن صدق أو كذب ما يقوله المنجمون وما فيه من عنصر تسلية، هو أنها تمثل احتفاء بالتجهيل والغيبيات، وتشجع الناس على تجاهل الأسلوب العلمي في التفكير الذي يستند في الأساس للبناء المنطقي فى الانتقال من المقدمات إلى النتائج.
صحيح أن بعض هذه التنبؤات يمكن أن تصدق بفعل الصدفة أو بناء علي معلومة هنا أو هناك، لكنها في نهاية الأمر لا تجعلها صادقة ولا تعطيها ملامح التفكير العلمي، فهي لم تستند إلى حقائق معروفة يمكن البناء عليها "بمنهج علمي" في رصد التوقعات، بعكس ما يحدث في الأرصاد الجوية مثلًا، حيث يقوم الخبراء بدراسة كل الظواهر الجوية وحركة الشمس والأرض والهواء والكواكب المحيطة والضغط الجوي وغيرها قبل الإعلان عن توقعاتهم لما سيحدث، صحيح أنه أحيانًا تخطئ هذه التوقعات، لكن ذلك لا يغير من طبيعتها العلمية وإمكانية الاعتماد عليها وتصحيح ما يحدث فيها من أخطاء في أدوات البحث والاستفادة منها، فهي في النهاية تعتمد على منهج ووسائل علمية يمكن التحكم فيها والإضافة إليها، بعكس ما يقوم بها أصحابنا المنجمون في الفضائيات، فهم يكذبون وإن صدقوا.
ومع بداية عام جديد، كنت أتمنى أن أرى المزيد من الدراسات المستقبلية العلمية التي نحتاجها، حيث أري الأشهر القادمة حاسمة في تحديد مسارات الأحداث فى المنطقة، وما ستكون عليه لعقود أو ربما لقرون قادمة، ولكن هناك الكثير من الضبابية في قراءة التطورات المستقبلية المحتملة لهذه الأحداث؛ لأنها تعتمد في الأساس على جهود فردية مشكورة لكنها محدودة لبعض الخبراء ويتجاهلها الإعلام، وأحيانا يصيبني الذعر وأنا أتصور أن صانعي القرار في العالم العربي ربما لا تتوافر لديهم وسائل أكثر مصداقية ودقة في قراءتها للمستقبل مما نشاهده ونسمعه في الفضائيات، نحن في حاجة لخبراء حقيقيين جادين، صناعتهم الدقة في رصد المعلومات، والفهم لسياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفة بالأبعاد الإقليمية والدولية، ثم البناء على ذلك في رصد توقعاتهم للمستقبل، بحيث تأتي قرارات من بيده السلطة على بينة مما يحدث.
المؤسف أن كثيرًا من "الخبراء" الذين يطلون علينا في الإعلام العربي (والمصري خصوصًا) لا يختلفون كثيرًا عن أصحاب التنجيم، فالقضية ليست أن تحمل لقبًا علميًّا فخمًا، أو أن تستخدم مفردات تبدو معقدة تليق بالمثقفين، فالمهم هو الخبرة والمعرفة الحقيقية والأسلوب العلمي في التفكير، أذكر علي سبيل المثال أن كثيرًا من هؤلاء كانوا يتحفوننا بالكثير من تأكيداتهم الموثوقة أن السودان لا يمكن له أن ينقسم، معتمدين على جهل المستمع بكل ما يرددونه من تفصيلات ثبت خطؤها جميعًا، نحن لا نريد هذه النوعية من "الخبراء" أصحاب نظرية «المجلس الأعلى للعالم» التي روجها على إحدى الفضائيات خبير استراتيجي مصري يشغل موقعًا حساسًا، كما لا نريد أولئك الذين يكوّنون آراءهم اعتمادًا على قصاصات الصحف ومواقع الإنترنت التي لا تحظى بالمصداقية، هؤلاء أخطر علينا من المنجمين؛ لأن الناس تستمع لهم وتثق فيما يقولون، كما لا نحتاج قطعًا في القرن الواحد والعشرين لأولئك الذين يتصدون لمهمة الحكم، ثم يفاجئوننا بحديث الخزعبلات والغيبيات، نحتاج إلى خبراء يستندون إلي المنهج العلمي في التفكير والتنبؤ، ونريد حكامًا وإعلامًا يرجع إلى مثل هؤلاء الخبراء، بدلًا من أن يبحث عن من يقول له ما يعجبه. باختصار نريد أولئك الذين يحصلون على مرتباتهم مقابل دقة معلوماتهم وصحة تنبؤاتهم، فقد صدق هؤلاء وإن كذبوا أو بالأحرى وإن أخطأوا!.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة