مع بداية عام جديد تتواصل رحلات الباحثين عن الحرية على امتداد الأرض وخاصة العربية
مع بداية عام جديد تتواصل رحلات الباحثين عن الحرية على امتداد الأرض وخاصة العربية.. ملايين المواطنين ينتقلون من مكان إلى آخر، بإرادتهم أو مجبرين، يطمحون إلى حياة أقل ألما وجنونا.. ربما يحصل قليلهم عليها، لكن أكثرهم يصيب فشلا.. بعض أهل الشام يغادرونها هربا من مصير مخيف يعدهم به كلٌ من مقاتلى داعش وجنود الجيش الموالى للنظام والمتحالفين ضد «الإرهاب».
الليبيون عالقون فى معارك طويلة الأمد يسعون للخروج من سعيرها إلى حرية لا تزال بعيدة، والعراقيون ليسوا بدورهم أفضل حالا، نفرٌ من مواطنى المملكة يعانون قيود الفكر المتيبس منذ قرون ويرجون الانعتاق من سيوف رجال الدين، أما المصريون فمحاولاتٌ للتحايل على نظام عقيم الرؤية، وفرارٌ من اعتقالات عشوائية وسجون هى كالمقابر.. سجناءٌ بين جدران تشيدها السلطة، وآخرون بلا جدران ولا حدود.
قرأت أخيرا تصريحات للرئيس التشيكى زيمان، يقول فيها إن التعاطف ممكن مع اللاجئين الصغار وكبار السن، لكنه عسير مع الشباب.. يرى أن الأصحاء منهم يجب أن يحملوا السلاح ويقاتلوا من أجل الحرية.. يعرف زيمان بإطلاق آراء عنصرية، وبوضع تحليلات شديدة السطحية والتبسيط، لكن رأيه هذا يدفع بأسئلة كثيرة.. هى أسئلة تدور فى مجملها حول معانى الحرية والوجود.
أتكون الحرية فى الفرار من جحيم الحرب، والاستبداد، أم فى البقاء والمواجهة، ومن ثم قبول المخاطرة بالتعرض إلى السجن أو الموت؟ سؤال متكرر يجيب عنه الناس بطلاقة طالما كانوا سالمين آمنين، لكن الإجابة تصبح عسيرة على أرض الظلم.
عن نفسى أعرف من وجدوا الرد الملائم ونفذوه ودافعوا عنه.. أعرف من لجأوا إلى بلدان ليست لهم واستقروا فيها مؤكدين أنها الحرية أخيرا؛ نالوها بعد طول معاناة.. أعرف أيضا صحابا رفضوا أن يغادروا بلداتهم، وفضلوها أطلالا على غيرها؛ يرون فيها حريتهم لا فى سواها.. أعرف سائقا من بلاد الشام لا يفتأ حتى اليوم يهاتف معارفه فى مصر ضاحكا سائلا عن الحال والطقس والناس، ويرسل المزحات بين الحين والحين.. لو شاء لغادر مع المغادرين لكنه لا يفعل ولا أظنه سيفعل عما قريب.
***
أحيانا ما يرى السجين أنه حرٌ وأن سجانه هو الأسير.. حرٌ لأنه يملك أفكاره وأحلامه، بينما السجان عبدٌ لسادة يأمرونه وينهون، ويضعون على لسانه عباراتهم ويحذفون كلماته.. تتغير وجوه السادة تبعا للمكان والزمان، كذلك يتبدل السجناء، بينما يبقى العبد على حاله.
تواترت فى السنوات الأخيرة رسائلٌ وخطابات من شبان وشابات رهن الاعتقال، إذ تمددت السجون لتضم بين جنباتها الآلاف.. تداولت الصحف بعض الرسائل بينما بقى بعضها مكنونا.. لفت نظرى أن الرسائل التى ظهرت لم تكن مفعمة جميعها بروح المقاومة المثالية التى ينشدها المتلهفون، ولم تحمل ــ كما يأمل القراء المتعاطفون ــ توكيدا أن أصحابها أو صاحباتها أشداء، لا يشعرون بهموم السجن وقيوده، بأنهم يملكون حريتهم المعنوية ويكتفون بها، غير آبهين لضيق المكان وقذارته.. بعض الرسائل الموجعة صدمت من طالعوها وهدمت الصورة الإيجابية التى تعلقوا بها.
قال عددٌ من الشبان المحتجزين إن السجين السعيد الذى يحمل حريته فى ثنايا قلبه وأحشائه ويتمتع بها بين الجدران متجاوزا الواقع، لا وجود له فى الحقيقة.. قالوا إنهم يقاسون أشد المقاساة من وحشة الحبس، ويشعرون بضيم الأسر وعذابه، يعانون الأوجاع وتقلبات الطقس، وسوء المأكل وشح الدواء واستفحال الداء.. قالوا إنهم يتمنون الحرية ويشتهونها كأثمن ما يشتهون.. ترى أكانت الحرية فى بقائهم؟ أهم أضاعوها حين لم يهربوا إلى مجتمع أقل دناءة وشراسة وأكثر إنسانية؟
قالت لى صديقة تكبرنى إن الأشهر التى قضتها فى السجن كسياسية شابة معارضة منذ عقود، كانت جيدة إلى حد بعيد مقارنة بالحال الراهنة: معاملة حسنة، لا إهانة فيها ولا تحقير، غطاء كاف، التريض والشمس والهواء أمور متاحة، القراءة والكتابة ليستا بممنوعات.. ربما بدت تجربة السجن حينذاك مقبولة، أما اليوم فأظن أن رسائل المعتقلين وأوضاعهم المزرية تعيد طرح سؤال الحرية ومعناها.
لا أتصور أن طبيبا شابا كان بالأمس فى بلد أوروبى يدرس ويعمل ويزاول حياته طليقا، لا يزال قادرا على الشعور بحريته مكتملة غير منقوصة وهو قابع دون ذنب فى زنزانة تفتقر إلى أبسط شروط الآدمية.. لا أظن أن المسجونين على خلفية قضايا سياسية وقضايا رأى، يشعرون بحريتهم كون مبادئهم لا تزال فى رءوسهم، لا يتمكن أحدٌ من منازعتهم فيها.. لا أظن أيضا أن المهاجرين يشعرون بحريتهم فى البلدان الغريبة التى طرقوا أبوابها وعبروا حدودها صاغرين، برغم نظافتها وجمالها وتنظيم شوارعها.. ثمة أفعالٌ تبدو فى ظاهرها محض اختيار لكنها تحمل فى باطنها شروط القسر والإجبار، وثمة أشخاصٌ هنا وهناك سلبت حرياتهم فى إحدى صورها، وربما تسلب حيواتهم أيضا إذا ما طال بهم الانتظار.
يسعى الناس إلى إجابة السؤال كل وفق ظروفه وتبعا لقدرته، بعضهم يطوى الأرض سعيا وراء حريته والبعض يتشبث بمكانه.. بعضهم يئن من ثقل حموله، وبعضهم يحتفظ بظل ابتسامة ولسان حاله ينشد: لا تحسبن رقصى بينكم طربا فالطير يرقص مذبوحا من الألم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة