أفضل ما يمكن أن يعبر عن منهج إدارة أوباما فى التعامل مع الإرهاب هو تقرير قدمته لا علاقة مباشرة له بالإرهاب! ففى عام 2011
أفضل ما يمكن أن يعبر عن منهج إدارة أوباما فى التعامل مع الإرهاب هو تقرير قدمته لا علاقة مباشرة له بالإرهاب! ففى عام 2011، حين رفع عدد من أعضاء الكونجرس قضية أمام محكمة فيدرالية ضد الإدارة لشنها هجمات على ليبيا دون التقدم بطلب للحصول على موافقة الكونجرس أو حتى إخطار الأخير، كما ينص قانون سلطات الحرب، ناهيك عن الدستور نفسه، أرسلت إدارة أوباما تقريرا للكونجرس قالت فيه إنها ليست فى حاجة لأى من ذلك لأن الولايات المتحدة «ليست فى مرمى إطلاق نار متبادل مع قوات معادية»، وليس لها قوات برية على الأرض، ولا يوجد احتمال «لوقوع إصابات بين القوات» الأمريكية، طبعا، كون عملياتها عبارة عن هجمات جوية فقط. ومثل تلك الحجة القانونية كانت فريدة من نوعها. صحيح أن كل الرؤساء الأمريكيين تقريبا سعوا للتحلل من الحصول على موافقة الكونجرس، وكثيرون منهم استغلوا لصالحهم التعبير المستخدم فى نص القانون، أى «الأعمال العدائية»، إلا أن ما قالته إدارة أوباما يجسد منهج الرئيس الأمريكى فى التعامل مع الإرهاب. فهو منهج يعتمد على الضربات من الجو، خصوصا عبر الطائرات بدون طيار، وتوسيع دور القوات الخاصة والاستخبارات، وتجنب تورط القوات البرية، والاستعاضة عنها بحرب بالوكالة، أى بتدريب وتسليح قوات من بلدان أخرى لتقوم بالمهمة نيابة عن الولايات المتحدة. فأوباما تسلم الحكم فى يناير 2009 بعد أن كان قد تعهد بسحب قوات بلاده، البرية تحديدا، من كل من أفغانستان والعراق، وسعى لأن يواصل «حرب بوش على الإرهاب» دون أن يعطيها «بالضرورة اسم الحرب»، على حد تعبير بن رودز، نائب مستشار الأمن القومى الأمريكى
و«الحرب الأمريكية على الإرهاب» تنطوى على صراعات بين الهيئات التنفيذية المنخرطة فى صنع السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية. ومثل تلك الصراعات تكاد تكون القاعدة لا الاستثناء فى صنع السياسة الأمريكية. وفيما يتعلق بالإرهاب، توجد خلافات بين البنتاجون والمخابرات المركزية، وأخرى بين البنتاجون ووزارة الخارجية بل وخلافات بين أجهزة الاستخبارات المتعددة نفسها. وهى خلافات تلقى بظلالها على السياسة الأمريكية وتخلق بداخلها تناقضات بل وتؤدى فى أحيان كثيرة لنتائج غير تلك التى كانت مستهدفة أصلا.
و«الحرب الأمريكية على الإرهاب» أكثر اتساعا من العراق وسوريا، إذ تشمل مناطق أخرى منها اليمن والصومال، وهى مرشحة فى فترة وجيزة للتوسع مزيدا فى أفريقيا وآسيا. أما بخصوص العراق وسوريا، فقد ابتدعت إدارة أوباما منهجا مختلفا لكل منهما. فهى فى العراق، تقوم بحربها على داعش بالوكالة، أى عبر التسليح والتدريب. فعلى سبيل المثال، أرسلت الولايات المتحدة مؤخرا حوالى 3500 من القوات الأمريكية للقيام بمهمتين، أولاهما تدريب القوات العراقية لمواجهة داعش، وثانيتهما جمع معلومات استخباراتية بخصوص داعش فى كل من العراق وسوريا. وكانت القوات الأمريكية قد صاحبت فى بعض الأحيان قوات البشمرجة، الأمر الذى أدى لمقتل أمريكيين، مما أثار أسئلة ومراجعة فى الكونجرس لتلك السياسة. وقد أصدر الكونجرس قانونا لتمويل المساعدات العسكرية للقوات الحكومية العراقية لمواجهة داعش، شريطة أن تلتزم تلك الحكومة بإشراك عادل لكل من البشمرجة الأكراد والعرب السنة. بل إن الكونجرس منح الرئيس صلاحية تحويل المساعدات مباشرة إلى البشمرجة والسنة إذا ما ثبت أن الحكومة العراقية تمتنع عن إشراكهما.
أما فى سوريا، فالموقف الأمريكى من محاربة داعش أكثر تعقيدا بكثير لأنه مرتبط بالموقف من النظام السورى ومن كل الأطراف الفاعلة على الأرض فى سوريا من تركيا والسعودية إلى إيران روسيا. وقد شهد الموقف الأمريكى تحولا طفيفا خلال فترة أوباما الثانية. ففى بداية الحرب السورية، كانت الولايات المتحدة تسعى سرا وعلنا للإطاحة بنظام الأسد وتقوم بدعم فصائل المعارضة السورية. وقد تولت المخابرات المركزية تلك المهمة عبر شحن أسلحة من ليبيا بعد سقوط القذافى فى 2011 إلى معارضى الأسد عبر تركيا والأردن. لكن وزارة الدفاع الأمريكية عارضت عمليات المخابرات المركزية على اعتبار أن سقوط الأسد من شأنه أن يفسح المجال لداعش لا للمعارضة السورية التى اعتبرها البنتاجون إما ضعيفة، كالجيش السورى الحر، أو متطرفة كجبهة النصرة. وحدث التحول فى الموقف الأمريكى، إذ صار الدبلوماسيون يتحدثون عن «حل تفاوضى» يخرج من خلاله الأسد من السلطة مع الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وإيجاد «شراكة بين فصائل المعارضة المختلفة» لتولى الحكم وإعادة إعمار البلاد. وعلى ذلك، ففيما يخص محاربة داعش بسوريا، فقد وصلت لشمال سوريا فى أكتوبر الماضى قوات خاصة أمريكية لتقوم بعمليات ضد داعش، بينما يدعم البيت الأبيض معارضى الأسد وإن أشارت التقارير إلى نية الإدارة تسليم السلاح لقيادات يتم اختيارها بعناية، فضلا عن تسليح أكراد سوريا. لكن، مرة أخرى، تعتمد الولايات المتحدة فى مواجهتها لداعش فى سوريا على الضربات الجوية، واستخدام أوباما للطائرات بدون طيار عموما يظل أكثر كثافة بكثير من بوش. فعلى سبيل المثال، فى فترة عام واحد، من أغسطس 2014 إلى شهر ديسمبر 2015، قامت الطائرات الأمريكية بما يقرب من 9 آلاف ضربة جوية ضد داعش فى كل من سوريا والعراق. وهى ضربات استهدفت ليس فقط المناطق التى تسيطر عليها داعش وقواتها وأفرادها وانما أيضا البنية التحتية لإنتاج النفط فى المناطق التى تسيطر عليها لضرب تمويل التنظيم. كما تقوم طائرات بدون طيار بمهام استخباراتية تستهدف معرفة مواقع المنضمين الجدد ومنع دخولهم الأراضى السورية.
أما فى مواجهة الإرهاب خارج سوريا والعراق، فتستخدم أمريكا الضربات الجوية أيضا سواء فى اليمن أو الصومال. ويسعى البنتاجون للحصول على موافقة بإقامة قواعد جديدة فى أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب أوروبا تنطلق منها القوات الخاصة والطائرات بدون طيار. وهو موضوع تعارضه وزارة الخارجية الأمريكية، بينما يوجد خلاف بين الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية المختلفة حول مدى انتماء جماعات إرهابية مختلفة لداعش. فعلى سبيل المثال، هناك خلاف حول مدى انتماء بوكو حرام النيجيرية لداعش رغم أن الأولى أعلنت رسميا ذلك الانتماء. لكن الخلاف يدور حول ما إذا كانت بوكو حرام وغيرها ذات أهداف دولية أم مجرد أهداف «إقليمية» لا تمثل تهديدا للأمن القومى الأمريكى. ومثل هذا الخلاف الذى لم يحسم لصالح أى فريق هو أحد العوامل التى تنعكس فى صورة تناقض فى المواقف من مختلف الجماعات.
وكل تلك الخلافات التى تدور بين الهيئات التنفيذية المختلفة لها تأثيرها بالضرورة على صنع القرار الأمريكى إذ يبدو أحيانا متناقضا، بينما يؤدى فى أحيان أخرى لنتائج عكسية. وإدارة أوباما تتعرض لضغوط داخلية لاستخدام القوات البرية، بينما يفضل أوباما حربا بالوكالة، أى مواجهة داعش عبر قوات عربية. وهو ما يعنى إما تتورط بشكل مباشر بقوات برية، كما يريد بعض الجمهوريين، أو تضطر عبر الجو لحماية قوات حلفائها على الأرض. وفى الحالتين قد يؤدى ذلك لمواجهة مباشرة مع النظام السورى وبالضرورة إيران وروسيا، بما يفتح الباب على مصراعيه لحرب دولية ممتدة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة