سارت تظاهرات جماهيرية ضخمة في كوريا الجنوبية في الآونة الأخيرة، كان هدفها الرئيسي الاعتراض على إدخال الحكومة تعديلات على مناهج التدريس
سارت تظاهرات جماهيرية ضخمة في كوريا الجنوبية في الآونة الأخيرة، كان هدفها الرئيسي الاعتراض على إدخال الحكومة تعديلات مهمة على مناهج تدريس التاريخ في المرحلة الدراسية ما قبل الجامعية، واتهام رئيسة الجمهورية بأنها تقف خلف ذلك عبر توجيه تعليمات للحكومة للتحرك في هذا الاتجاه، بسبب انحيازات أيديولوجية موجودة لديها مسبقاً وترغب في أن تصبغ تدريس مادة التاريخ الحيوية والمهمة للنشء والشباب في اتجاه نزعتها الأيديولوجية. لكن كانت هناك أسباب أخرى للتظاهرات ربما أقل بروزاً وأهمية، على الأقل من جهة التغطية الإعلامية. لم تكن المرة الأولى التي تتحرك فيها الشعوب اعتراضاً على تغييرات في محتوى مناهج التعليم بالنسبة إلى مادة التاريخ، وما يرتبط بها من مواد ذات صلة، كما أنها لن تكون المرة الأخيرة. ولا شك في أن لمنطقة شرق آسيا خصوصية في ما يتعلق بمناهج تدريس مادة التاريخ في المدارس والجامعات، بسبب رواسب تاريخية ومخزون طويل ومتراكم من المرارات بين الشعوب الثلاثة الرئيسية المكونة لتلك المنطقة الجغرافية، وهي اليابان والصين وكوريا بشطريها. ولذلك فهناك سوابق في تلك البلدان الثلاثة لحراك شعبي جامح في الشارع، كثيراً ما يكون بعيداً من توجيه حزب أو تيار سياسي بعينه، إما احتجاجاً على أو دعماً لإدخال تعديلات على مناهج تدريس التاريخ للنشء والشباب. وغالبية هذه الحالات، ارتبطت بتطور أنماط العلاقات والتفاعلات التاريخية بين تلك الأمم، إلا أن جزءاً منها كان يتصل باعتبارات داخلية وتناقضات أيديولوجية داخل صفوف كل شعب وفي ما بين التيارات الأساسية المؤثرة فكرياً وسياسياً واجتماعياً. ومن الأمثلة المعروفة في هذا السياق ما يعرف تاريخياً بـ «نساء المتعة»، وهو ما تطلق عليه اليابان تعبير «نساء الراحة»، وتطلق عليه الكوريتان «عبيد الجنس»، وهو نزاع تاريخي يتناول وصف نساء كوريات قدمن المتعة خلال الحرب العالمية الثانية لضباط وجنود الجيش الياباني. وتقول الرؤية الغالبة على كتب التاريخ الياباني، أنهن فعلن ذلك بمحض إرادتهن ومن دون إجبار، في إشارة ضمنية إلى أن هذه كانت مهنتهن الأصلية أو أنهن أقدمن على ذلك للحصول في مقابل مادي، في حين تدفع الرؤية الكورية بأن هؤلاء النساء تعرضن لشكل من أشكال الرق وتم إجبارهن على القيام بهذا العمل غير الأخلاقي، ولم يتقاضين أي مقابل لذلك.
أما المثال الآخر فهو حالة القادة العسكريين اليابانيين المدفونين في «ضريح ياسوكوني» في طوكيو، فقيام مسؤول ياباني كبير بزيارة هذا الضريح كان، ولا يزال، يثير ردود فعل غاضبة لدى دول أخرى سواء في شرق أو جنوب شرقي آسيا، وكان الأمر يرتبط دوماً بالتوجهات الأيديولوجية السائدة في اليابان، فكلما طغت التوجهات اليمينية لدى من هم في دوائر الحكم كلما انتظمت زيارة الضريح على أعلى مستوى، ورغم أن من قاموا بالزيارات برروها في حينها بأنها لم تكن تحديداً لزيارة من يسمون بمجرمي الحرب اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، بل لمجمل من هم مدفونون في الضريح من قادة وضباط وجنود يابانيين قضوا في حروب اليابان السابقة، إلا أن هذا الرد لم يكن مقنعاً، سواء لقوى اليسار ويسار الوسط الياباني في الداخل أو للدول المجاورة لليابان، بخاصة الصين والكوريتين.
ولكن هذه الظاهرة لا تقتصر على شرق وجنوب شرقي آسيا، فوطننا العربي ليس بعيداً منها، لا تاريخياً، ولا في الوقت الراهن، فكلنا نعرف الدفوع الإسرائيلية المتكررة في شأن مطالبة الدول العربية التي دخلت مع اسرائيل في معاهدات أو اتفاقات سلام، بتغيير محتوى مادة التاريخ التي يتم تدريسها في مدارس أو جامعات تلك الدول، وخصوصاً ما يتعلق بتاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي وبتطور قضية فلسطين، بما في ذلك إلى حد التقدم بمطالب تفصيلية في هذا الإطار تضمنت الدعوة لحذف إشارات وتفاصيل بعينها من كتب التاريخ. تمَّ هذا مع مصر عقب معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في 26 آذار (مارس) 1979، كما تم لاحقاً، وفي شكل متكرر، مع السلطة الوطنية الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو عام 1993. ودخلت على هذا الخط لاحقاً منظمات غير حكومية في بلدان غربية، سواء في أوروبا أو أميركا الشمالية، لتدعم المطالب الإسرائيلية في هذا الخصوص، وذلك على أرضية أن من شأن تعديل مناهج تدريس التاريخ المساهمة في «ترطيب الأجواء» ومساعدة جهود تحقيق السلام وتطبيع العلاقات بين العرب والإسرائيليين. إلا أن هذا المطلب لم يقابل بتجاوب من قبل الأطراف العربية المعنية حتى الآن.
لكن هناك بعداً آخر داخلياً في البلدان العربية يتصل بالتغييرات في أشكال النظم أو الحكومات السياسية أو حتى أحياناً في شخص من يتولى الحكم أو السلطة، فقد شاهدنا على مدار تاريخنا المعاصر مواقف عدة، وفي الكثير من البلدان العربية، من القيام بمراجعات وإدخال تغييرات في محتوى مناهج تدريس مادة التاريخ في المدارس والجامعات بسبب تغير الحكومات أو الحكام، وتمت إعادة صياغة المناهج، أحياناً في فترة وجيزة للغاية، وفي شكل مبتسر وغير احترافي، ويبتعد في حالات عديدة من المنهجية العلمية أو الموضوعية اللازمة، بل الضرورية، لضمان الصدقية أمام الطلاب والدارسين أنفسهم على أقل تقدير، ما جعل مضمون وكيفية تدريس هذه المادة يتحول إلى مجرد أداة يتم استخدامها أو توظيفها في معركة أيديولوجية أو صراع سياسي آني.
وحدث ما تقدم تاريخياً عقب التحولات في النظم السياسية التي طاولت العديد من الدول العربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد الخمسينات ومطلع عقد الستينات من القرن العشرين. كما حدث في أعقاب تغييرات سياسية طرأت في دول عربية عدة في الفترة التالية لهزيمة حزيران (يونيو) 1967 وعلى مدار عدد من السنوات المتتالية. وكذلك جرى ذلك في عدد من الدول العربية التي حدثت فيها ثورات وانتفاضات في ما عرف إعلامياً بـ «الربيع العربي» وما شهدته هذه الدول من تغييرات سياسية متلاحقة على مدار السنوات الخمس الماضية. والمشترك بين هذه الحالات هو الحرص على تغيير محتوى ومناهج تدريس مادة التاريخ في شكل سريع.
لكن الملاحظة الأساسية في هذا المجال هي أن الإسراع، وبدوافع أيديولوجية وسياسية، الى تغيير وجهة منهج مادة التاريخ بحيث تعبر عن وجهة نظر الطرف الحاكم في هذا البلد أو ذاك، أو عن هذا التوجه الأيديولوجي أو ذاك، يؤدي إلى نتيجتين أساسيتين، ضمن نتائج أخرى، وهما أولاً غياب الصدقية عن هذه المناهج، المتغيرة في شكل متسارع ومتوازٍ بالتزامن مع تغير القادة السياسيين أو التوجهات الأيديولوجية لمن هم في سدة الحكم، ومن ثم التأثير على فئة النشء والشباب التي لا تأخذ هذه المناهج، بتغييراتها ذات الدافع السياسي، بالجدية اللازمة ولا توليها الاهتمام الواجب. أما النتيجة الثانية، وربما الأهم، فتتصل بأن هذه التغييرات المتتالية تهز من الجذور ما هو أهم من الوعي بالتاريخ لتصل إلى درجة التأثير على تعريف مفهوم الهوية ومرجعياتها وتوصيف معاييرها وتوضيح محدداتها لدى النشء والشباب، وهي أمور من المفترض أن تكون ثابتة وراسخة ولا تتعرض للتبدل في شكل متسرع أو مبتسر.
ء*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة