إذن الأحزاب والقوى السياسة تتنافس - فى المقام الأول - فى السياسة وعليها، وتتصارع من أجل أن يكون لكل منها الغلبة
تعلمنا فى مدرسة العلوم السياسية أن هناك بوناً شاسعاً بين السياسة والسياسات، وأنهما ليستا كلمتين إحداهما مفردةٌ والأخرى جمعٌ، بل هما أصل وفرع، نظرية وتطبيقات، عام وخاص؛ السياسة هى من عالم الكليات، أو هى الرؤية الكلية الشاملة؛ بعيدة المدي، التى تقدم تصوراً عاما لإدارة شئون المجتمع فى مرحلة زمنية معينة، وهذه الرؤية، أو الخطة العامة الشاملة؛ التى تحدد ما ينبغى أن يكون عليه المجتمع الدولة فى تلك المرحلة الزمنية، تحدد منظومة عمل الدولة، وملامح حركة المجتمع فى كل المجالات التى تؤثر فى حياة الإنسان، وفى وجود المجتمع واستمراره قويا فاعلاً، وفى دور الدولة داخليا وخارجيا، وفى حضورها وتفاعلها على المستوى الإقليمى والدولى.
السياسة هى الخطة الكبرى للدولة والمجتمع فى الداخل والخارج، فى الاقتصاد والاجتماع والثقافة..إلخ، فى العلاقة مع الصديق والعدو، وثالثهما الذى يقع بين المنزلتين، فى الدور الإقليمى والدولى... السياسة هى القضية الكبرى التى تختلف حولها الأحزاب والأفكار والمدارس، وتتفاعل وتتدافع من أجل سريان ونفاذ رؤية معينة على حساب أخري، لذلك لا تكتمل منظومة السياسة، ولا يتحقق وجودها إلا بحالة من التدافع بين تيارات وأحزاب وجماعات وتصورات متعارضة ومختلفة، كل منها يدعى أنه الأقدر على تحقيق سعادة الإنسان، ورفاهية المجتمع وتماسكه، واستقرار الدولة وازدهارها وحضورها الفاعل والمؤثر فى المجتمع الدولي.
إذن الأحزاب والقوى السياسة تتنافس - فى المقام الأول - فى السياسة وعليها، وتتصارع من أجل أن يكون لكل منها الغلبة فى تعريف سياسة الدولة التى تنتمى إليها، ومن ثم رسم مستقبلها، وتحديد وجهتها، وتعريف دورها فى الإقليم والعالم، ولذلك تختلف الايديولوجيات فى السياسة، وتتنافس وتتصادم، وينتج هذا الاختلاف - إذا ما تم فهمه - نظاماً حزبيا قويا، ونظاما سياسيا أكثر فعالية، وأدوم استمرارا.
السياسة - فى التطبيق العملى - هى الخطة العامة للدولة، التى تميزها عن الدول الأخري، هى خريطة الطريق - بالمعنى العلمى - التى تحدد وجهة الدولة واتجاهها وحركتها المستقبلية، هى الخطة الكبرى Master Plane، هى التى تعطى كل قرار، وكل فعل تقوم به كل وزارة أو هيئة أو إدارة على المستوى الوطني، أو على المستوى المحلى معناه ودلالته، وتضعه فى موقعه من الإستراتيجية الكلية للدولة، وتجعل كل مواطن يفهمه الفهم الصحيح، ويعرف أنه لبنة فى بناء كبير يراه مجسدا فى عقله قبل أن يتحقق فى الواقع، السياسة هى التى تجعل الأفعال الصغيرة، والمشروعات الجزئية ذات دلالة ومعني، ودونها تبدو هذه القرارات والمشروعات شذرات متناقضة ومتضاربة وعديمة المعني؛ ومن السهل نقدها؛ من خلال طرح بديل آخر كان أولى بالاهتمام منها.
أما السياسات فهى التطبيقات التخصصية والجزئية للسياسة فى مختلف القطاعات والمجالات والتخصصات، فتكون هناك سياسة صحية معينة تنبثق من السياسة الكلية للدولة، سواء أكانت تلك السياسة تعتمد تعميم الخدمة الصحية للجميع كما هو الحال فى بريطانيا، أم خصخصتها وتقديمها لمن يستطيع، والفقراء لهم مستوى أدنى من تلك الخدمة؛ كما هو الحال فى أمريكا، أو تركها للصدفة والظروف كما هو الحال فى عالمنا العربية وتكون هناك سياسة تعليمية معينة تعتمد مجانية التعليم، أم تقدمه كخدمة مدفوعة الثمن متعددة المستويات من حيث النوعية والكيفية والكفاءةة وهكذا لباقى المجالات.
السياسات إذن هى انعكاس للسياسة الكلية فى مختلف المجالات؛ وتطبقها الوزارات المختلفة، وتشكل فى مجموعها سياسة الحكومة، ورؤية الدولة فى تلك الفترة الزمنية، فالسياسات منظومة متكاملة كأنها فرقة موسيقية، لابد أن تخرج فى النهاية لحناً واحداً؛ فى تناغم يسعد السامعين، أو أنها فريق عمل يطبق منظومة من السياسات فى تناغم يسعد المواطنين، لأن وظيفة جميع الحكومات وهدفها وغايتها سعادة مواطنيها، وإلا كانت حكومات فاشلة وفاسدة.
ولكن هذا هو الحال فى الدولة النامية المستقرة، التى تضع خططاً واضحة وسياسات محددة ومتناغمة، أما فى عالمنا العربى وخصوصاً فى مصرنا الحبيبة، منذ السبعينيات من القرن الماضي؛ فالأمر على خلاف ذلك، لأنه ـ للأسف ـ لا توجد سياسة واضحة، ولا توجد رؤية مستقرة ومتفق عليها، ولا توجد خطة متكاملة، ولا توجد خريطة ولا طريق، بحيث توجد هناك سياسات جزئية فى مجالات معينة يفرضها الواقع، وتحددها الظروف والأزمات، بحيث لا يكون لها علاقة بباقى مجالات المجتمع، فعلى سبيل المثال قد تكون هناك سياسة معينة لقطاع السياحة تهدف إلى جذب عدد معين من السياح لتحقيق نسبة إشغال محددة للفنادق، ودخل معين للدولة، ولكن لا توجد سياسة متوافقة مع ذلك فى قطاع النقل أو الأمن أو الصحة من حيث الرقابة على الأطعمة، وهنا تفشل السياسة السياحية فشلا ذريعاً، لانعدام وجود السياسة الكبري.
الواقع أن بلادنا تدار ليس كما تدار الدول، وإنما تدار كمرفق الإسعاف أو المطافى فى بلد متخلف، حيث تتحدد السياسات طبقا لمستوى ونوعية الحوادث والحرائق فى المجتمع، فيتم التركيز على قطاع الطرق لأن هناك شكوى من عدم وجود طرق حديثة قادرة على تفعيل قطاع الاستثمار، وهنا يتم التركيز على الطرق السريعة بين المدن، أما الطرق داحل المدن والأحياء حيث يعيش الشعب، فالوضع أكثر من كارثي.
أو يتم التركيز على قطاع معين من التعليم؛ وهو التعليم الدينى لأن هناك مشكلة تطرف وعنف وإرهاب، فتكون الدعوة لإصلاح التعليم دعوة جزئية تركز على قطاع محدد منه، وليس المنظومة التعليمية برمتها، على الرغم من أن المتطرفين والإرهابيين لم يتخرج أحد منهم من مؤسسات التعليم الديني، وإنما تخرجوا جميعاً فى مؤسسات التعليم المدني؛ التى لم يتم تضمينها فى السياسة التعليمية.
إذن نحن كرجل إطفاء واحد يقف وسط ميدان، تحيط به الحرائق من كل مكان، الجميع ينادون عليه لإنقاذهم، فيذهب لهذا بضع دقائق، ولا ينهى حريقه، ويتركه لمساعدة آخر، وبذلك تبقى جميع الحرائق مشتعلة، ورجل الإطفاء تخور قواه، وينهك، ويسقط صريعاً على الأرض.
نحن فى حاجة لوضع سياسة كلية، تجعل من المشروعات الكبرى التى يتم إنجازها لبنات فى بناء كبير هو مصر المستقبل، وليست شذرات جميلة متناثرة، لا يكاد يفهم المواطن البسيط معناها، ولا دلالتها، نحن فى حاجة لأن نبدأ القصة من بدايتها؛ وليس من وسطها لو وُجِدَت تلك السياسة لفهم المصريون معنى ودلالة قناة السويس الجديدة، والطرق، والمفاعل النووي، ولما تشتت أفكارهم مع كل من يريد إرباكهم وتشتيتهم لإفشال دولتهم ...إلخ
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة