التلاعب باليمين الدستورية يتجاوز الانفلات الشخصى إلى أزمة مستحكمة تكاد تعصف بأى احترام وكل استقرار لمؤسسات الدولة.
التلاعب باليمين الدستورية يتجاوز الانفلات الشخصى إلى أزمة مستحكمة تكاد تعصف بأى احترام وكل استقرار لمؤسسات الدولة.
ما هو شخصى يتضاءل أمام الأخطار المحدقة، فاحترام الدستور مسألة شرعية.
بالتعريف اليمين الدستورية من شروط اكتساب العضوية فى المجلس النيابى.
وهذه ليست مسألة شكلية بقدر ما هى التزام بالقواعد والأصول فى ممارسة المهام غير المسبوقة التى أوكلها الدستور للنواب.
بلا قواعد فإنها فوضى ضاربة وبلا أصول فإنها مسرحية هزلية.
لم يكن الانفلات تحت قبة البرلمان محض مصادفة، فالدستور بنصوصه وقيمه شبه معطل.
تعطيل الدستور استخفاف به وتحريض عليه.
الانتخابات النيابية سبقتها حملات إعلامية ممنهجة يعتقد أصحابها أن النيل من الدستور هو هدم لـ«يناير» وعودة إلى الماضى وخياراته.
للدستور قضيتان أساسيتان.
أولاهما، تحصين الحقوق والحريات العامة.. وثانيتهما، ضمان التوازن بين مؤسسات الدولة بما يمنع تغول السلطة التنفيذية.
بكلام مباشر فإن استهداف الدستور يقصد تفريغه من إنجازاته الكبرى التى تفسح المجال أمام التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ولم تكن مصادفة أخرى محاولة الفصل بين مواد الدستور وديباجته التى تنص على أن «يناير ـ يونيو» ثورة واحدة فريدة فى التاريخ تقدمها الشباب وانحاز لها الجيش.
ما يستحق الحوار الجدى يتجاوز بكثير المشهد الهزلى الافتتاحى للبرلمان الجديد الذى قوض صورته فى مجتمعه قبل أن يبدأ أعماله.
فالديباجة ليست موضوعا فى الإنشاء ولا تنفصل عن مواد الدستور كما قيل عن جهل مدقع.
النص الدستورى يؤكد الوحدة العضوية بين ديباجته ومواده.
لم يكن ذلك أمرا مصطنعا من قبيل التزيد لإضفاء قيمة ملزمة على كلام إنشائى.
مراجعة السياق الذى جرت فيه صياغة دستور (٢٠١٤) تكشف بجلاء الأهمية البالغة لديباجته.
فى أجواء «يونيو» تبدى رفضا واسعا للدستور الذى وضعته جماعة الإخوان المسلمين دون توافق وطنى.
جوهر الرفض خشية التحول إلى دولة دينية.
الديباجة التى قيل باستهتار بالغ إنها إنشائية أكدت مدنية الدولة ووفرت الحد الأدنى الذى يمكن القبول به.
الدستور الحالى مدنى نصا وروحا، غير أن تأكيد الديباجة اكتسب قيمته من توقيته وأثره المعنوى من قلق الانزلاق مجددا.
لهذا السبب انطوت على ضبط مرجعية المادة الثانية الشهيرة التى تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» وفق «مجمل أحكام المحكمة الدستورية العليا».
الكلام ليس إنشائيا، فهو صلب (٣٠) يونيو وجوهر إطاحة جماعة الإخوان المسلمين من السلطة.
الاستهزاء دون رد حاسم ينسف أية شرعية تولدت بعد تلك الإطاحة.
والفصل بين «يناير» و«يونيو» يجعل من أى كلام عن الشرعية أضحوكة كبرى ومأساة لا تحتمل فى الوقت نفسه.
فـ«يناير» الأصل الثورى وقيمة «يونيو» الوحيدة استعادة الثورة التى اختطفت.
أى كلام آخر يفضى مباشرة إلى اعتبار الأخيرة «ثورة مضادة» أو انقلابا عسكريا.
هذا ظلم فادح لـ«يونيو» التى كانت تعبيرا عن إرادة شعبية كاسحة فى رفض مشروع الدولة الدينية والتكويش على السلطة ونقض عهود الالتزام بأهداف «يناير» واحدا إثر آخر فى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
بغض النظر عما جرى بعد «يونيو» فإن الحدث بذاته عمل تاريخى لا مثيل لحشوده المليونية فى التاريخ المصرى الحديث.
وكان تدخل الجيش حاسما فى (٣) يوليو لنصرة الإرادة العامة للمصريين.
أيا كانت الأخطاء الفادحة التى صاحبت تحولات (٣٠) يونيو فإنه لا يصح التقليل من أهمية هذا التدخل، فقد كان مستحيلا مواجهة جماعة مسلحة تحظى بتمويل كبير ودعم دولى وإقليمى ولها تحالفات مع جماعات تكفيرية دون تدخل المؤسسة العسكرية.
قطع الصلة بين «يناير» و«يونيو» يسىء إلى الجيش بقسوة كأنه طامع فى السلطة لا منحازا إلى الشعب.
كما ينزع عن جهاز الأمن أية شرعية، فلا أمن بلا شرعية.
إذا كانت «يناير» مؤامرة فإن كل التجاوزات الأمنية التى استدعت الغضب الشعبى مبررة والدولة البوليسية من ضرورات الاستقرار.
هدم «يناير» مشروع عودة للدولة البوليسية.
هذا ضد الثورتين معا.
كما إنه إنكار لأية مظالم اجتماعية رافقت أوسع عملية نهب منهجى لموارد البلد وأية حقوق فى التوزيع العادل للثروة الوطنية على ما ينص الدستور.
وهذا مشروع اضطراب اجتماعى لا يمكن تجنبه.
لا استقرار ممكنا بلا قواعد شرعية ثابتة تحكم السياسات والتصرفات.
وحدة «يناير» و«يونيو» المنصوص عليها فى ديباجة الدستور هى جذر الشرعية.
عندما يضرب جذر الشرعية فكل شىء معرض للانهيار.
لو أن التلاعب فى اليمين الدستورية كان شخصيا محضا فإن أثره عابر.
الأزمة الحقيقية سوف تتبدى تحت قبة البرلمان بعد أن يغادر الإجراءات إلى ممارسة مهامه.
العشوائية المتوقعة والتفلتات المنتظرة ضد الحريات العامة والعدل الاجتماعى أثمانها باهظة على مستقبل النظام كله.
لا يخفى على أحد أن هناك توجها لدى بعض أجهزة الدولة يحرض على كل انتقام من «يناير» ويتحالف مع أشباح الماضى ضد أى حلم بعدل اجتماعى.
اللعب بنار الدستور مثل كراهية «يناير» نهاياته مأساوية.
سقط نظام «حسنى مبارك» لاستهتاره المفرط بالدستور لتمرير مشروع توريث الحكم إلى نجله الأصغر.
وسقط حكم «محمد مرسى» فى سنة واحدة لاستهتار مماثل عمل على تمكين جماعته من الحكم لخمسة قرون تالية.
أخطر ما جرى فى الجلسة الأولى للبرلمان الجديد أنه أعاد إلى الأذهان وقائع جلسة أولى أخرى فى برلمان (٢٠١٢) شهدت فوضى فى أداء اليمين الدستورية.
فقد أقحم عدد من نوابه عبارة «بما لا يخالف شرع الله» وقام أحد الإسلاميين برفع الأذان فى مزايدة واضحة على المنصة.
لم يكن ذلك سوى تعبيرا عن أزمات توشك أن تنفجر.
الشىء نفسه مرشح للتكرار فى البرلمان الجديد.
بقدر نزوع برلمان (٢٠١٢) لإعادة صياغة الدولة على أساس دينى فإن برلمان (٢٠١٤) ينطوى على نزوع آخر لإنكار «يناير».
أرجو أن نتذكر أن الأغلبية الساحقة من نواب الجماعة التزموا نص اليمين الدستورية غير أنهم لم يكونوا حاسمين مع الذين انفلتوا.
نفس درجة الرخاوة جرت فى الجلسة الأولى للبرلمان الجديد.
وأرجو أن نتذكر أنه لم يكن هناك دستور يقسم على احترامه فى برلمان (٢٠١٢) فقد أجريت الانتخابات النيابية وقتها وفق إعلان دستورى أصدره المجلس العسكرى الذى تولى مقادير الأمور بعد ثورة «يناير».
هذه المرة التلاعب ينطوى على استخفاف بواحد من أفضل الدساتير المصرية منذ بدء الحياة النيابية حاز على نسبة تصويت لا مثيل لها فى كل الاستحقاقات التى جرت قبل أو بعد «يونيو».
لم تكن المنصة حاسمة ولا الأداء العام مقنعا والفوضى ضربت الجلسة الأولى للبرلمان الجديد.
أمام الفضيحة اتخذ قرار وقف بث الجلسات بالإجماع وسط تصفيق حتى لا تتمدد الفضيحة إلى كارثة وأن تكون البدايات عنوانا على الانهيارات.
كان ذلك اعترافا نهائيا بتهافت مستويات الأداء وإقرارا مبدئيا بعدم جدارة النيابة عن الشعب فى التشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
إذا لم يحترم الدستور فى هذا البلد فإن الفشل محقق والانهيار محتمل.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريد الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة