استيقظ الأمريكيون على خبر قيام مجموعة من الرجال البيض المنتمين لحركات الميليشيا المسلحة فى أمريكا باحتلال مبنى تابع للحكومة الفيدرالية
واقعة احتلال الميليشيات المسلحة لمبنى حكومى فى ولاية أوريجون لها دلالات عميقة ولا يمكن تفسيرها إلا عبر ارتباطها بالطابع الاستيطانى للتاريخ الأمريكى. ففى ثانى أيام العام الجديد، استيقظ الأمريكيون على خبر قيام مجموعة من الرجال البيض المنتمين لحركات الميليشيا المسلحة فى أمريكا باحتلال مبنى تابع للحكومة الفيدرالية فى محمية طبيعية بولاية أوريجون، وهو احتلال لم ينته حتى كتابة هذه السطور. والسبب المباشر وراء ما قامت به حركات الميليشيا ليس هو جوهر الموضوع.
فالهدف الحقيقى هو امتلاك الأراضى التى آلت للحكومة الفيدرالية من السكان الأصليين. أما السبب المباشر، فكان الاحتجاج على حكم بالسجن خمسة أعوام صدر فى حق رجل وابنه بعد قيامهما بإشعال الحريق عمدا فى أراضٍ تابعة للحكومة الفيدرالية متاخمة لمزرعة تربية الماشية التى يملكها، فضلا عن تهديده الدائم لممثلى الحكومة الفيدرالية والتحرش بهم. وقد تحرك رجال الميليشيا بإيعاز من أحدهم من ولاية نيفادا المجاورة، له باع فى المواجهة مع الحكومة الفيدرالية، آخرها كان العام الماضى بعد أن حكم عليه بسبب تخلفه لعقود ممتدة عن دفع الضرائب المستحقة لاستغلاله أراضى الدولة المتاخمة لمزرعته فى رعاية الماشية. وقد احتل هؤلاء المبنى واستخدموا خطابا مخيفا تحدثوا فيه عن نيتهم للبقاء هناك «عدة سنوات» وعن استعدادهم للدخول فى مواجهة مسلحة مع القوات الفيدرالية «يقتلون فيها ويُقتلون إذا كان ذلك ضروريًّا»، بينما سجل أحدهم شريط فيديو ودع فيه أهله قائلا إنه يريد «أن يموت كرجل حر»! وقد أعلن أولئك الرجال من بين أهدافهم التى كانت تتغير على مدار الساعة عن ضرورة تحرير الأراضى الشاسعة فى كل ولايات الغرب الأمريكى من قبضة الحكومة الفيدرالية، وقال متزعم الحركة إنهم لن يرحلوا إلا بعد أن يتم حل كل المنازعات مع الحكومة الفيدرالية عبر منح صكوك ملكية للمتنازعين معها.
والحقيقة أن تلك الميليشيات المسلحة موجودة منذ بدء التاريخ الأمريكى. والتعديل الثانى للدستور الأمريكى ينص على أنه لا يجوز الاعتداء على الحق فى تكوين «الميليشيات المنظمة، كأساس للمجتمع الحر». لكن الأصل التاريخى لوجود تلك «الميليشيات» يعود إلى ما يسبق كتابة الدستور. فحين جاء المستوطنون الأوروبيون الأوائل، امتدت حروبهم ضد السكان الأصليين لقرون. وفى ذلك الوقت، كان يتم ضم المستوطنين الفقراء اللاهثين لامتلاك أراض واسعة إلى ميليشيات مسلحة لمحاربة السكان الأصليين وملاحقتهم وقتلهم. ثم جاء الدستور الأمريكى ليجعل لتلك الميلشيات وضعا دستوريا. وبعد كتابة الدستور، تولت الحكومة الفيدرالية- لا حكومات الولايات- التعامل مع السكان الأصليين، فعقدت معهم المعاهدات التى لم تلتزم بها بالمناسبة. أما البيض فى الميليشيات المسلحة فظلوا تماما مثلما كان الحال تاريخيًّا يلهثون وراء الأرض ويريدونها لثرائهم الفردى، فصار نزاعهم مع الحكومة الفيدرالية التى اعتبروها تقهرهم حين لا تسمح لهم بامتلاك الأرض التى يعتبرونها «أرضهم»، ولتلك الميليشيات المسلحة مواقف شديدة التطرف من التعددية العرقية والإثنية فى أمريكا. لذلك، ورغم سلوك الميليشيات فى أوريجون وأن خطابهم يبدو وكأنه يأتى من تاريخ أزمنة سحيقة ولا ينتمى لمجتمع «متقدم» كالمجتمع الأمريكى، إلا أن الأصل التاريخى وحده هو الذى يفسّر سلوكهم الذى يضرب بجذوره فى عمق التربة الأمريكية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة