"بيزنس" زياد الرحباني يستأنف الإساءة للفنان زياد الرحباني
مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" ستُعرض كفيلم يقول الإعلان، الذي يقدم لقطات تُظهر صورًا مغبشة، رديئة، بإضاءة سيئة وألوان متحللة.
حين دخلت صالة السينما لأشاهد فيلم «العائد» (The Revenant) البديع، تمَّ قبل بداية الفيلم عرض شريط دعائي للنسخة المصوّرة من مسرحية زياد الرحباني «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978). المسرحية ستُعرض كفيلم يقول الإعلان، الذي يقدم لقطات تُظهر صورًا مغبشة، رديئة، بإضاءة سيئة وألوان متحللة. أما الصوت فيها فهو عبارة عن ضجيج يخلط الأصداء ويشوه الكلام ويطمسه، فلا نميز فيه الأقوال والعبارات. فيما بعد، أكد لي الذين شاهدوه أن الشريط بمجمله فضيحة، صوتًا وصورة.
هي صدمة أن يتجرأ أحدهم على عرض شريط بهذه الرداءة، بوصفه استعادة لعمل فني، بعد 38 عامًا على تقديمه، راسخ في الذاكرة العامة كواحد من أبرز التعبيرات الفنية والثقافية والمسرحية والغنائية في لبنان.
تبادر إلى ذهني خاطرتان: أولًا: لن أسمح لنفسي بمشاهدة هذا العرض. فالمسرحية التي كنت أحفظ مقاطع كاملة منها وسمعتها عشرات المرات بمتعة لا تذوي، سأظل محتفظًا بها كما كنت أتخيلها وأتخيل شخصياتها، متألقة ومفعمة بقوتها الواقعية.
سأظل محتفظًا بسحرها ووضوح لغتها في صندوق ذاكرتي، إذ لطالما كانت "بالنسبة لبكرا شو؟"، بالنسبة لي، مرجعًا وجدانيًّا وثقافيًّا يرسم صورة واضحة عن نبض الحياة في "بيروت الغربية"، بما كانت تعتمله من أفكار وأيديولوجيات، وتحولات الحرب، وخطاب اليسار و"الحركة الوطنية" و"المقاومة الفلسطينية"، والغليان الثقافي، والانقلابات الاجتماعية، واضطراب القيم وأنماط العيش والذائقة؛ فهذه المسرحية كثَّفت مناخات المدينة ببراعة استثنائية، وساهمت في تكوين وعينا ومزاجنا النقدي، بل أيضًا في لهجتنا ونبرتنا وصوتنا.
ثانيًا: خطر ببالي، وأنا أشاهد هذه اللقطات السيئة، أن زياد الرحباني يستأنف الإساءة لإرثه وإرث عائلته، ليس سياسيًّا وثقافيًّا فحسب، وإنما بغرض المكسب المادي. فلا مبرر لهذا الافتراء الذي ارتكبه الرحباني على مسرحيته وعلى جمهوره، سوى سعيه الواضح في السنوات الأخيرة لجني المال بأي طريقة. وهذا بحد ذاته ليس مذمة أو وصمة، لكن أن يكون التربح قائمًا على الإساءة والاستخفاف بقيمة الإرث الفني نفسه، وتحطيم مكانته والتعدي عليه، فهذا ليس ربحًا بل تبديد طائش لـ"الثروة" الحقيقية، وتشويهًا غير قابل للإصلاح لصورة العمل الفني الكامنة في وجدان متلقيه.
حين شاهدت عام 1983 مسرحية «شي فاشل» ندمت. ليس فقط لأن المسرحية حينها كانت دليلًا على بداية أزمة زياد الرحباني في "التأليف" المسرحي، بعد الانكسار الكبير إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وتمزق اللغة التي كان ينهل منها، بل لأن مسرح الرحباني ليس للفرجة فعلًا. إنه مسرح إذاعي، مسرح الحوارات والكلام واللهجات.
شخصياته في أصواتها ونبراتها فحسب.
غاب عن المسرح عشر سنوات. انتهت الحرب، فأتى عام 1993، بعمل «بخصوص الكرامة والشعب العنيد».
عمل موتور ونزق، يعلن فيه، بصراحة، كراهيته للكيفية التي رسى عليها السلم الأهلي وإنتاج السلطة، وبدا شديد الغضب من التحول الذي أودى بالأيديولوجيا الشيوعية، وهو الشيوعي الستاليني الملتزم. غضب سيتحول في هذه المسرحية إلى التبشير بالخلاص على يد ضابط عسكري نازي الملامح. تبنيه للخطاب الفاشي سيكون سببًا لهجمات نقدية لاذعة ضده وضد مسرحه. لأول مرة، يظهر الرحباني مخذولًا من الصحافة والرأي العام وخاذلًا لمحبي فنه.
سيزداد الأمر سوءًا بعد عام واحد فقط، مع عرضه التالي "لولا فسحة الأمل"، كمحاولة منه لاستدراك الفشل في عمله السابق، وكدفاع ركيك عن أفكاره ومواقفه.. حين يخصص جزءًا بارزًا منها لعرض معضلته المتفاقمة مع اللغة، هو الذي كان لاعبها اشتقاقًا وتوليدًا وتجديدًا.
هكذا، على الأرجح، انطفأ أخيرًا وهج زياد الرحباني مسرحيًّا. بقيت ثلاثيته المدهشة: "نزل السرور" (1974) و"بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، و"فيلم أمريكي طويل" (1980)، مكرسة في الضمير الثقافي العام، وملكًا للذاكرة الجمعية المتوارثة خلال أكثر من أربعة أجيال.
اليوم، حين يضطر ناقد سينمائي مرموق إلى القول عن "فيلم" الرحباني: "المادة المصوّرة مصدرها حفلات عدة من المسرحية عينها. وتمّ النبش واستخراج "الأفضل" من كلّ حفلة، والمقصود بالأفضل هنا الأقل رداءة"، وأنه "خبصة"، ويكون هذا القول في عمل لزياد الرحباني لا غيره، فهذا علامة محزنة على حال فنان، أمضى السنوات الأخيرة في استمصال تجاربه القديمة، جاعلًا من مواقفه وتصريحاته وخزعبلاته الاستفزازية، من نوع الجلوس في مهرجانات "حزب الله"، والسخرية من آلام الشعب السوري والدعوة إلى سحقه، كمسرحية سمجة و"فاشلة".
aXA6IDE4LjIyMC4yMDAuMTk3IA== جزيرة ام اند امز