وجدت فى خواطرى ما علقت به على كتاب محمود الجيار الذى كان أحد مساعدى الرئيس جمال عبدالناصر
عندما كنت أقلب فى تلال أوراقى محاولاً للمرة المليون أن أنتهى من فهرسة آلاف الأوراق والأجندات التى تحتوى على كلمات كتبتها أو نقلتها، وقعت عينى على خواطر كتبتها حول كتاب لمحمود الجيار حول ذكرياته الشخصية مع جمال عبد الناصر.. وللأسف لم أعثر على الكتاب نفسه رغم أننى كنت أشير فى الخواطر إلى هوامش أدرجتها على صفحات ذلك الكتاب، ويبدو أنه ضاع فى رحلاتى الكثيرة التى كنت أصطحب فيها جزءا لا يستهان به من مكتبتي، أو أن أحد الأصدقاء استعاره ولم يتذكر أن يعيده شأن ما حدث مع كتب كثيرة ..
وقد سجلت هذه الخواطر فى منتصف السبعينيات، ومن المؤكد أنها كانت بعد عودتى من الجبهة، لأن الخواطر تضمنت بالإضافة إلى ملاحظاتى على الكتاب، ملاحظات أخرى حول ما أطلق عليه حينذاك انتفاضة الحرامية!!..
كانت تلك الفترة مزدحمة بالكتب والمذكرات الشخصية والتى كانت فى أغلبها هجوما عنيفا ضد الرئيس ناصر، وربما بنفس الأقلام التى صاغت فيه شعراً ونثراً مديحاً غير مسبوق، وكنت بطبيعة الحال شأن الكثيرين ألتهم هذه الكتب التهاما، حتى تبين لى أن أغلبها لا يساوى ثمن الحبر الذى كتبت به، لأنها لم تكن سوى نفاق لعصر آخر، أو حقد أعمى على الرجل، أو محاولة أطلقت عليها «غسيل السيرة» مثل «غسيل الأموال»..
وجدت فى خواطرى ما علقت به على كتاب محمود الجيار الذى كان أحد مساعدى الرئيس جمال عبدالناصر.. فى الفصل الثامن من الصفحة 99 إلى الصفحة 116 تناول الجيار مسألة نشوء وتطور مراكز القوى حول الزعيم، وكيف وصل جبروتهم إلى درجة حجب المعلومات عن ناصر وتوصيل معلومات بعينها فقط إليه، وكانت دهشتى كبيرة أمام بعض الأسماء – هكذا كتبت – التى كانت تبدو فى الظاهر على الأقل شديدة الولاء والخضوع للزعيم، وكنت أتصور أن بعضهم على استعداد للموت فداء لناصر، إلا أن الجيار الذى كان بحكم وظيفته ملاصقاً للرئيس سلط الضوء على وقائع مفجعة تؤكد لو صحت أن ناصر العملاق كان ضحية لمجموعة من المنافقين الذين كانوا يعززون مواقعهم فى السلطة ويغترفون من مغانمها بينما الرجل وحده يتحمل المسئولية ..
يقول الكتاب: «أنه ما من واحد أراد ناصر الاعتماد عليه، وأتاح له السلطة الكافية، إلا وشرع فى تشكيل مركز قوة يحاول به أن يشل فاعلية عبدالناصر نفسه»، ولذلك فإن تاريخ مراكز القوة عند محمود الجيار لا يبدأ بالمركز الذى صفاه أنور السادات فى مايو 1971، وإنما يبدأ قبل ذلك بكثير..
ويأخذنا الجيار – هكذا كتبت – فى رحلة عبر وقائع وشخصيات كانت تلخص مأساة الزعيم الفرد حين تعزله مراكز القوة فتجعله كالأعمى والأصم، ولا يبقى منه سوى لسانه، وذلك يذكرنى بمسرحية الأستاذ يوسف إدريس «المخططين» التى مثلناها فى التوفيقية، حين وقف زعيم المخططين كى يخطب بعد أن اكتشف أن الدنيا ليست خطوطاً سوداء وبيضاء فقط، فإذا بأعوانه يقطعون سلك الميكروفون ويضعون تسجيلاً لخطاب قديم له، بحيث يظل هو يخطب كمن يحدث نفسه، بينما الناس تسمع نفس الخطاب القديم!!..
ومركز القوة الأول الذى أشار إليه الجيار فى البداية بالرمز (ب)، هو من تم نشر اسمه كاملاً فيما بعد وهو السيد زكريا محيى الدين، الذى كان عبد الناصر يطلق عليه اسم «بيريا» رجل البوليس السرى الشهير فى الاتحاد السوفييتي..حيث يروى الجيار أن زكريا حرص على تركيز كل مصادر المعلومات بين يديه بحيث يكون مكتبه فقط هو الذى يتولى وحده عرض كل المعلومات على الرئيس، وأنشأ لذلك مكتبا عين فيه كلا من محيى الدين أبوالعز وكذلك سامى شرف ..
وروى الجيار بعض أخبار سامى شرف ومنها أنه كان يعمل مع رشاد مهنا الوصى على العرش، وأنهم كانوا يتصرفون وكأنهم ملوك مصر الجدد، حتى أحاط بهم زكريا محيى الدين ونجح فى إغراء سامى شرف بأن يكون شاهد ملك، ثم أصبح يعتمد عليه منذ ذلك الحين ..
يروى الجيار عن التقارير المتعددة التى كانت تعرض على ناصر وتخوفه من المؤامرات ومحاولات الاغتيال وتطلب منه عدم الاتصال بالجماهير، وكأنها خطة مرسومة لعزله عن الشعب، ويقول الجيار ان ناصر استدعاه ذات يوم وسأله عما إذا كان قد سمع عن مؤامرات اغتياله، فأجابه الجيار بالإيجاب، فسأله عبدالناصر: «لماذا لم تبلغني؟»، وشرح له الجيار مدى المبالغة فى هذه المعلومات، ويقول فى الكتاب انه «شعر أن الرجل الذى قادنا إلى ثورة يوليو، والذى تشغله دائماً قضايا بلاده الكبرى.. قد بدأت تشغله عدة تقارير مخططة بالأحمر والأزرق»..
ويواصل الكتاب فى إعطاء أمثلة على نجاح مراكز القوة فى إخفاء المعلومات عن الزعيم، وتسريب معلومات لخدمة أغراضها والتى وصلت إلى حد استغلال النفوذ والفساد، إلا أن أخطر مراكزالقوة التى كتب عنها الجيار تفصيلاً هى تلك التى تشكلت حول المشير عبد الحكيم عامر واستغلت شهامته واندفاعه وكذلك صداقته لعبد الناصر كى تنفذ وتنتشر كالسرطان فى مفاصل الدولة حتى كادت تقضى عليها عام 1967..
لقد نقلت من هذه الخواطر القديمة بعض سطورها، وإن كنت قد تمنيت أن تسمح المساحة بسرد كل المخازى التى صنعتها مراكز القوة، ولا شك أن لكل عصر تنشأ مراكز قوة كالأورام الخبيثة، وتنتشر ببطء حتى تجعل من الرئيس رجلاً لا يسمع ولا يرى وربما لا يتكلم أيضاً كما صوره يوسف إدريس فى مسرحيته الرائعة: «المخططين» ...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة