معرض "أطياف الواقع" للبناني أسامة بعلبكي: جماليات الطبيعة المنتهكة
14 عملًا يتضمَّنها معرض الفنان اللبناني طغت موضوعة الطبيعة عليها من دون غياب "البورتريه" الذي كان متسيدًا في أعماله السابقة بلا منازع.
افتتح في بيروت، بغاليري "أجيال"، يوم الثلاثاء الماضي (ويستمر حتى 6 فبراير المقبل)، معرض الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي، تحت عنوان "أطياف الواقع".
في هذه الأعمال الجديدة، يستمر بعلبكي (مواليد 1978) في النسق الذي اختاره، أي الاتصال بالأصولية التشكيلية للحداثة الفنية، كما أرساها الانطباعيون والتعبيريون بين أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، والتأكيد على جماليات تجديدها وعلى ديمومة فاعليتها الثقافية وعلى قدرتها كتعبير بصري.
وبالتالي، تجديد الثقة بـ"اللوحة" (القماشة والتلوين والإطار)، كأداة عمل وكجنس فني قائم وحيّ ومستمر، بقدر ما هي ميدان اختبار وتجربة وإنجاز. بمعنى آخر، المعرض نفسه كممارسة متحققة، يأتي كجواب على سجال واسع، حول الممارسة التشكيلية في زمن الخروج على اللوحة والتلوين والرسم. وإذا كان صحيحًا أن لا فرادة لأسامة بعلبكي في هذا السياق، فالنتاج التشكيلي ومعارض اللوحات ما زالت مزدهرة بحضورها القوي، عالميًّا ومحليًّا، إلا أن بعلبكي يبدو متعمدًا في أن يكون معرضه هذا، بمثابة "تصريح" واضح وتحية حارة لما قد نسميه أصولية الحداثة وتقنيات روادها ومساراتهم وأساليبهم المتنوعة: من سيزان وفان غوغ إلى مونيه وديغا وغيرهم.
14 عملًا، طغت موضوعة الطبيعة عليها، من دون غياب "البورتريه"، الذي كان في أعماله السابقة متسيدًا بلا منازع. وهذه "العودة" إلى الطبيعة، حتمت على الفنان الخروج من رمادية الأسود والأبيض التي كانت مهيمنة على بورتريهاته، الصادمة في حالاتها وعزلاتها واضطرابها الجسماني والتعبيري. إنه الآن يحتفي باللون والضوء والفضاء.
وهو في ذهابه نحو الطبيعة، سيمارس مناورة فنية نزقة لا تخلو من مفارقة جمالية. إذ تعمَّد أن تكون مشاهد الطبيعة في كل لوحاته ملتقطة بكاميرا هاتفه الجوال (الموبايل)، صور غير محترفة، راهنة، وموحية بحركة غير واقعية في آن معًا. هذه "المناورة" هي الدلالة الأولى على عصرنة اللوحة الحديثة "الأصولية"، والانحراف بها نحو الإضافة الذاتية للفنان. أما الدلالة الثانية فنجدها في متن المشهد الطبيعي وما طرأ عليه من تحولات: أن نرى عمود كهرباء بهندسيته المعدنية المجردة ينتصب في منتصف المشهد الطبيعي الناعس، أن نرى لوحة إعلانية بجسمها الضخم المستطيل في وسط صورة الغابة الليلية، أن نرى الرافعات الضخمة تحتل الحيز الأكبر من لوحة سماوية مشتعلة بالأصفر الشمسي، وصولًا إلى تكريس لوحة انطباعية بكامل تموجاتها الكثيفة وازدحام ضرباتها التلوينية، هي عبارة عن رسم لسيارة من نوع "بيجو" عتيقة ومهملة، بوصفها "طبيعة" أيضًا. هذه اللوحة تحديدًا تحمل أيضًا نزقها الخاص، أو هي مناورة مضاعفة على ثيمة الطبيعة: سنجد أن ثمة باقة ورود بكل حرارتها اللونية الحمراء، متروكة ومجهولة المصدر، معلّقة على ماسحة الزجاج الأمامي.
لا تبدو تلك العناصر غير الطبيعية في لوحاته الانطباعية استفزازًا ولا هي موضوع احتجاج أو رفض رومانسي. إنها قبول بجماليات التناقض التي طرأت على المشهد الطبيعي، رفضًا للسذاجة الرومانسية التي تحذف آثار العمران وتغيرات البيئة المؤنسنة والمعيوشة والمنظورة. بل إن بعلبكي يستثمر، إذا صح التعبير، جماليات تلك العناصر بحد ذاتها، ثم الانتباه لجماليات تجاورها مع الطبيعة، ولعل الأهم هو تكريس اللوحة لإبراز القوة التعبيرية للتناقض والتنافر بين تلك العناصر الصناعية والفضاء الطبيعي، بوصفه وحدة موضوعية للمشهد المعاصر.
في معرضه الجديد، لم يغادر بعلبكي ميدانه الأثير، فن "البورتريه"، الذي قلت عنه قبل سنوات أنه مكرس لاقتراح عمل تشكيلي رمادي، ينفي فيه تقنيًا التضاد أو التناقض بين الأسود والأبيض، المتنافرين أصلًا، والممتزجين دومًا في أعمال بعلبكي بتناسق هارموني. لوحة رمادية غنية بكل التدرجات الكثيفة لامتزاج الأسود والأبيض. وهي تخاطب فينا مودّتنا الغامضة لجماليات فوتوغرافيا الأسود والأبيض، لكنها تتجنب الانزلاق نحو "الاستعادية" (Retro)، ذلك أن الأعمال هنا مكرسة ليوميات الفنان "الحديثة" وراهنية مظاهرها وعزلاتها، بمزاج ثقافي وجودي، ينتبه أولًا إلى "الصورة" الممسرحة والتمثيلية. كما أن اللوحات تتجنب الانزلاق أيضًا إلى محاكاة الفوتوغرافيا، لأن بعلبكي لا يتوقف عن الانشغال بتقاليد الرسم وتخطيطاته وحيله وتقنياته.
ما طرأ على بورتريهاته من تغير أساسي، نراه في تلك اللوحة - التحية للشاعر الفرنسي شارل بودلير. عمد بعلبكي هنا أيضًا إلى حيلة أو مناورة فنية متعددة الدلالات، فهو استعاد أولًا اللقطة الشهيرة بعدسة إتيان كارجا (1860)، لكنه بوضعه في اللوحة لـ"سهم" فأرة الكمبيوتر بارزة على جبين بودلير، أشار بعلبكي إلى أن مصدر الصورة ليس من أرشيف مطبوع أو كتاب، وطبعًا ليس كاميرا هاتفه، بل الإنترنت، المخزن الجديد لذاكرتنا والمصدر اللانهائي للتواصل وللمعرفة والتداول والقراءة والمشاهدة. ثم إن أسامة بعلبكي يقصد هذه المرة أن لا يترك البورتريه رماديًا، أو بالأسود والأبيض فقط، إذ سنرى زهرة فاقعة الأصفر، مرسومة كما هو شائع في "الديزاين" الهندسي، لا كما تكون في الطبيعة. هي مفارقة تعبيرية أخرى تحيلنا على "أزهار الشر" (قصائد بودلير)، بقدر أحالتنا على جماليات عمود الكهرباء في المشهد الريفي.
وعلى سوية أمانته التقنية والفنية لإرث الانطباعية، يذهب أسامة بعلبكي في أعماله نحو تكريس "الانتهاك" لهذا الإرث، التزامًا وإقرارًا وقبولًا بالتحولات التي يفرضها الزمن الراهن، وإسهامًا ذاتيًّا في مساءلة الذاكرة التاريخية للفن التشكيلي وللثقافة البصرية.