يطلع القارئ الكريم على هذه السطور قبل أربعة أيام من العيد الخامس لثورة يناير العظيمة التى يجرؤ البعض الآن على التباهى باحتقارها
يطلع القارئ الكريم على هذه السطور قبل أربعة أيام من العيد الخامس لثورة يناير العظيمة التى يجرؤ البعض الآن على التباهى باحتقارها.
بدأت الثورة باحتجاجات فجرتها عناصر شابة رافضة لاستبداد نظام تولى رئيسه السلطة قبل ميلادها لكن هذه الاحتجاجات سرعان ما تحولت إلى ثورة حقيقية بعد تبلور ظهيرها الشعبى على نحوٍ كاسح ، ومن هنا تفنيد الاتهام الموجه للثورة بأنها محصلة مؤامرة خارجية ، فانحياز الشعب للثورة هو خير تبرئة لها من هذا الاتهام المهين، ولا يعنى هذا أنه لم تكن هناك أصابع خارجية تحاول أن تتلاعب بالموقف الداخلى فى مصر تحقيقاً لمصالحها لكن الثورات لا تتفجر أو تنجح بفعل خارجى مدبر. قد ينجح انقلاب بهذه الطريقة أو تنتقل عدوى الثورة من بلد لآخر، لكن هذا لا يحدث بفعل مؤامرة خارجية ولكن لأن الجسد السياسى مهيأ لانتقال أعراض الثورة إليه.
وإذا كانت ثورة يناير مبرأة على هذا النحو من وصفها بالمؤامرة فإنها عانت دون شك من غياب التنظيم سواء داخل العناصر التى فجرتها أو القوى الشعبية التى ساندتها، ومن هنا ركب موجتها التنظيم الوحيد القوى فى الساحة السياسية المصرية بعد أن تآكلت آليات الحماية الأمنية للنظام تحت وطأة المد الشعبى الكاسح مع أن هذا التنظيم لم يشارك فى تفجيرها ولا هو دعمها فى أيامها الأولى حين كان انتصار الثورة مجرد احتمال ، وحلت بمصر سنة كئيبة من حكم فاشى دينى لكن الشعب الذى حول احتجاجات نخبة شبابية إلى ثورة شعبية عاد فصحح مسار الثورة فى 30 يونيو بمبادرة شبابية أيضاً، وفى الحالتين - يناير ويونيو - لعبت المؤسسة العسكرية بحسها الوطنى دورا حاسما فى نجاح الثورة بعدم الانحياز إلى نظام ثبت رفض الشعب له وإن اتضح دورها الإيجابى أكثر فى يونيو. الشعب إذن هو «كلمة السر» فى يناير ويونيو معا وتلاحم المؤسسة العسكرية الوطنية معه عامل حاسم فى تجسيد إرادته، وليس هذا بغريب على المؤسسة التى أنجبت عرابى وعبد الناصر، بل إن المؤسسة الأمنية التى تزامنت ثورة يناير مع يوم من أمجد أيامها حين جادت بأبنائها شهداءً لدى تصديهم لقوى الاحتلال الغاشم فى الإسماعيلية فى 25 يناير 1952 قد لعبت دوراً مهماً فى حماية التحرك الشعبى الهادر فى 30 يونيو بعد أن تخلصت من ربقة الدفاع عن نظام مبارك أيام الثورة.
تسبب انحراف ردود فعل الإخوان لإقصائهم إلى العنف فى معضلة أمنية حقيقية عطلت مسيرة الثورة كثيراً ناهيك بتهديد وحدة المجتمع بأعمال العنف التى طالت كنائس مصرية والتى حالت وطنية أقباط مصر الراسخة ووعى القيادة السياسية دون أن تتسبب هذه الأعمال فى المساس بأثمن ما يميز المجتمع المصري، ويلاحظ أن (الإخوان المسلمين) هم القوة السياسية الرئيسية الوحيدة فى تاريخ مصر المعاصر التى لجأت دوماً إلى العنف كلما توترت علاقتها بنظام الحكم، فقد تصادم فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك مع قوى سياسية عديدة فلم يشهر سلاح العنف من هذه القوى سوى الإخوان المسلمين وفروع شجرتهم التى لقى السادات حتفه على يد واحد منها، غير أن عملية الحفاظ على الدولة المصرية سارت من نجاح إلى نجاح عقب 30 يونيو وإن بتكلفة عالية من دماء أبناء مصر الذين قضوا دفاعا عن أمنها أو كانوا ضحية للعنف الأعمي، وإذا كانت مهمة تصفية الإرهاب فى مصر لم تكتمل بعد فإن البون شاسع بل إنه لا مجال للمقارنة أصلا بين الوضع الراهن فى مصر وبين دول تكاد أن تفقد ذاتها أرضا وشعبا عقب محاولات ثورية، ولاشك أن مواجهة الإرهاب قد أخلت أحياناً بالتوازن بين مقتضيات الحفاظ على سلامة الدولة وبين حقوق الإنسان، وعلى الرغم من قسوة الظروف المحيطة بعملية مواجهة الإرهاب محليا وعربيا وإقليميا بل وعالميا فإن الإصرار يبقى واجبا على تنقية ثوب الثورة من أى مساس بحقوق الإنسان أو شبهة فى ذلك .
وبعد إنقاذ الدولة المصرية وحمايتها بدأت محاولات جادة لبناء ديمقراطية سليمة وتحقيق دفعة تنموية ومراعاة مقتضيات العدالة الاجتماعية واستعادة دور مصر الإقليمى عربيا وإفريقيا ومكانتها الدولية، وتحققت فى هذا كله إنجازات محددة ليس هنا مجال تكرارها وإنما المهم هو مناقشة ما تم منها وتقييمه وترشيده وليس الانقضاض عليه وهدمه. يتحدث البعض للأسف عن «ثورة ثالثة» تشهدها الأيام القادمة وهو حديث بلا أساس فأى ثورة شهدتها مصر طيلة القرن العشرين وحتى الآن كانت تستند إلى قاعدة شعبية حقيقية غلابة كما حدث فى 1919 و1952 و2011 و2013، ومهما تكن المبالغة فى الحديث عن تراجع شعبية النظام الحالى وقيادته فإن الوضع الراهن فى الساحة السياسية المصرية لا يمكن تشبيهه من قريب أو بعيد بالوضع الذى ساد قبل يناير أو يونيو، وعلى الرغم من يقينى بالفشل الذريع لدعوات الثورة الثالثة فإنها قد تسفر للأسف عن بعض إخلال بالأمن نتيجة تحركات طائشة أو أعمالٍ إرهابية لا طائل وراءها سوى مزيد من سفك الدماء واستنزاف الموارد، والأجدى هو الانخراط فى العمل الوطنى بكل السبل الممكنة وشق كل الطرق الممكنة من أجل الترشيد والإصلاح والتطوير، ولتكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة درساً بليغا لنا فعندما أقبلت القوى الوطنية على المشاركة فيها وصلت إلى البرلمان عناصر تتسم بالكفاءة والنزاهة والحرص على مصالح الشعب وعندما قاطع آخرون أو تقاعسوا كانت النتيجة صادمة، ولعل هذا الدرس يحسم موقف العناصر الوطنية التى مازالت تنأى بجانبها عن المشاركة فى العملية السياسية.
يسألونك عما بقى من ثورة يناير فقل بقى الوعى السياسى الذى امتد إلى فئات الشعب كافة فأصبح تجاهله أو الاستخفاف به مستحيلا وبقى التلاحم بين شعب مصر وجيشها وتعزيز اللحمة بين مسلمى مصر وأقباطها وبقى الإصرار على تعزيز الديمقراطية الحقيقية والخروج من الأزمة الاقتصادية والانطلاق فى طريق التنمية الجادة وتحقيق العدالة الاجتماعية برفع سريع ومعتبر لمستوى الطبقات الفقيرة والمتوسطة واستعادة الدور الإقليمى الفاعل والمكانة الدولية الرفيعة لمصرنا الحبيبة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة