تمام عزام في حوار لـ"العين": خواء الأمكنة يؤلم أيضًا
درج مغطى بالدمار، يمتد لأمتار، توسط معرض تمام عزام "الطريق"، المقام في "غاليري أيام" في دبي ويستمر إلى 3 مارس 2016.
هذا الدرج المغطى بالدمار .. لم يعد يحمل نفس البناء ولا الوظيفة. الدرج لم يعد درجًا، معالمه لم تعد واضحة، ونهايته لست واضحة.
درج .. يسميه الفنان السوري تمام عزام، "درج إلى السماء"، درج لا نهاية له.
درج فعلي، يمتد لأمتار ومغطى بالأحجار وأغراض شخصية لأناس كانوا هنا، وضعه تمام عزام هناك كعمل تركيبي وسط معرضه الجديد "الطريق" -الذي افتتح الإثنين في "غاليري أيام" في منطقة القوز الصناعية في دبي- وتركه ممتدًا، متعاظمًا، ومتوالدًا تحت مرآة ضخمة ثبتت أعلاه. مرآة وظيفتها إعادة خلقه وربما إعادة تصوير وتعظيم الدمار العظيم أصلًا .. وربما خلق إمتداد له ليبدو مفتوحًا بلا نهاية، كفسحة صغيرة .. فسحة خجولة، تقول إن الطريق ليس مسدودًا تمامًا.
درج مفتوح إلى السماء .. إلى الموت؟
أهو دمار لا نهاية له؟ نسأل عزام في لقاء خاص مع "بوابة العين" .. "الدرج مفتوح على احتمالات عدة، وقد لا تكون إيجابية، لكنه على الأقل مفتوحًا. الدرج ممتد، تركته مفتوحًا لاستمرارية ما".
أهذا يعني أنك وسط كل هذا القتل وآلام الناس، وبعد 5 سنوات على انطلاق الثورة، ما زلت متفائلًا؟
لست متفائلًا، لكني لست متشائمًا؛ أنا في مكان ما بين الاثنين. لأنني أفكر بواقع الناس المستمرين الذين يمضون قدمًا ولم يتوقفوا، أو لنقل هم بطريقة أو بأخرى يحاولون الاستمرار، لأنه لا خيار لديهم".
وتمام عزام، هل توقف يومًا؟ هل قام بمراجعة لموقفه؟
موقفي لم يتغير، ولن يتغير، ولسنا نحن من نقوم بالمراجعات، الثورة أوسع من ذلك، وهي ماضية، وهي فينا وحولنا وتغيير كل ما بنا، ولا أسمح لنفسي بأن أقيمها أو أراجعها، لكني على الصعيد الفني، أعتبر أن هذا المعرض هو نهاية الأعمال التي قدمتها بنفس التيمة. أحتاج إلى بداية جديدة، مختلفة.
لمس واقع الأمكنة .. كحلم
أعمال عزام التي قدمها منذ مغادرته سوريا بعد انطلاق الثورة بأشهر قليلة، والتي تصل إلى المائة عمل معظمها رقمي، تتشابه في المعنى والتقنية، تختلف في البناء. في "الطريق" يقدم عزام لوحات تشيكلية وجدرايات صورت أبنية مدمرة، فارغة من ناسها، وأعمال رقمية وتركيبية، تصور أمكنة خلت منها الحياة، ورفعت الجدران في نهاية الطرق، وأطبقت الجدران على مياه البحر ومنارته فاعتقلتها في غرفة ضيقة، في رمزية لما تخطفه من أرواح اللاجئين، ما تسده من أفق ليصلوا إلى البر، وما تسده حتى على المنارات التي قد تساعد في التماس شيء من المستقبل القريب.
لوحات عزام بنيت على صور فوتواغرافية التقطت في دوما وحمص والقامشلي ومناطق وأحياء أخرى من سوريا من قبل مصورين محترفين مثل زينة رحيم، يزن الحمصي، إيهاب الجابي وغيرهم. أراد الفنان أن يرى من خلال صورهم سوريا التي لم يزرها منذ سنوات. أرادها أن تكون عينه المجردة التي تنقل الواقع بحذافيره.
يقول لـ"العين": "أردت أن أسند أعمالي إلى صور فوتوغرافية لأصور الدمار بأعمال فنية، أردت أن أكون هناك من خلال صورة، وذلك لعجزي عن رؤيته حيًّا وبعيني. الصور كانت دليلًا ألجأ إليه لأتجاوز البعد، وأضع نفسي هناك".
المكان إذن ما زال هاجس عزام، الأمكنة التي تحكي عن ناسه من دون أن يوجدوا فيها. لوحات وأعمال رقمية تلف متلقيها بمعانٍ أكثر ألمًا من صور البشر أحيانًا، فهذا الفراغ وحده كفيل أن يوصل المعنى ويؤرخ الخراب. المكان أيضًا كان أبرز ما شاهدناه في "غرافيتي الحرية"، باستخدم "قبلة" غوستاف كليمت التي ركبها على جدران مهدمة جراء القصف في دمشق، كتعبير منه واحتجاجًا على المعاناة التي تتعرَّض لها سوريا.
وأيضًا لا ينسى أحد حقيبة السفر التي لفها جواز السفر السوري، وحبال الغسيل التي لطالما حملت ذاكرة البيوت ورحلات الناس وإقاماتهم الجديدة، وتحكي الأحلام المعلقة خلفهم، وأعمال "المتحف السوري"، التي استخدم فيها لوحات عالمية شهيرة وأعاد "خلقها" من جديد. لوحات لدالي وبيكاسو وغويا، وتحديدًا لوحته المعنونة "الثالث من مايو" والتي تؤرخ لواقعة مقتل 80 شخصًا في يوم واحد من التاريخ الإسباني، استخدمها عزام ليحكي ما يحصل في سوريا تحت حكم السلطة والعسكر أيضًا، وليكرر "كم يومًا كالثالث من مايو في سوريا".
وطبعًا عمله "بون فواياج - رحلة ميمونة"-2012 التي صور فيها مجموعة من البالونات الملونة تطير ببيت محطم في دمشق وفوق برج إيفل ونهر التايمز ومقر الأمم المتحدة في جنيف، ويظهر هذه الأخيرة بهيئة باهتة، مفتقدة الدور والمعنى.
لكن وبالعودة إلى معرضه الجديد "الطريق"، يجد المرء أن العمل الوحيد الذي يدخل فيه العنصر البشري هو بورتريه لجندي، يقول عزام إنه ليس سوريًا، فاللوحة مبنية من صورة لجندي من الحرب العالمية الأولى، وهي هنا لأن الجندي في كل الحروب عينه، هو أول من يلمس الحرب ويشارك فيها .. ويقول عزام: "لا أقول إنه مسببها، لكنه أول شخص على تماس مباشر معها وأول شاهد".
"أحتاج أن أبدأ من جديد"
لكن بالرغم من أن أعماله تسير في السياق عينه، وتنقل أمكنة وألم سوريا، إلا أن الفنان بعد كل ما يقدم يصل إلى خلاصة أكيدة مفادها أنه لم يطأ ما رسمه في الحقيقة، ولن يفعل، ليس في المستقبل القريب على الأقل .. يقول "بالرغم من محاولتي نقل الواقع، بفجاجته، إلا أنني بعد هذه السنوات وكل الأعمال التي قمت بمحاكاة الأماكن فيها وبنيت علاقات معها وحاولت لمسها، أكتشف أنني رسمت أحلامًا، فأنا لم أكن هناك، ولن أكون هناك في المدى المنظور. وهذا الاكتشاف، هو ما يترسخ مع الزمن، وهو ما دفعني إلى اتخاذ قرار بأنني أحتاج أن أقدم في أعمالي المستقبلية شيئًا مختلفًا".
أمام "طريق" عزام، يحتاج المرء إلى قدر كبير من القدرة على الإنكار وتجاهل الواقع ليرى نور طريق .. أي طريق. طاقة لتخطي الخراب المنبعث من تلك البلاد..
باردة لوحات عزام، كبرودة الموت، كبرودة اللجوء. موحشة، كوحشة المدن بلا ناسها، والأدراج بلا صاعديها والكنبات بلا مجالسيها والطرقات بلا من يمشيها.
في كل عمل يقدمه عزام هنا، علاقة مع كائن أمام اللوحة وغائب خلفها. زوار يقفون على مسافة متر أو أقل من كل عمل ويبحثون عن حياة غائرة من تلك الواقعية، وفنان يقف في كل لوحة، يبحث عن ناس اختفوا .. ناس تحت الدمار، وراء الجدران، تحت الأرض، خلف البحار، في البحار.
aXA6IDMuMTIuMzQuMTUwIA== جزيرة ام اند امز