أعود إلى قول هذا بمناسبة المشهد الذى استفز المصريين جميعا عند مناقشة برلمان «جماعة دعم سلطة الحكم فى مصر»
هل القوة فوق الحق والحكومة فوق الأمة؟ معذرة لزعيم مصر الخالد سعد زغلول، صاحب شعار: «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة»، والذى حاول ومعه جماهير ثورة 19 أن يحول مجرى نهر التاريخ المصرى. ولكن عادت الأمور إلى مثل ما كانت عليه وزيادة، رغم شعاره الذى سيظل أبدا حلما للمصريين. كنت قد عزمت على التوقف عن الكتابة فى كل ما يتعلق بمجلس النواب، والعملية القيصرية التى جرت لتوليده بالصورة التى خرج بها، والأدوار المتوقعة منه، ووطَّنت نفسى على اقتناع بأننا طوال تاريخنا الحديث نعيش فى عصر شعاره: «القوة فوق الحق والحكومة فوق الأمة». كنا غالبا فى علاقتنا بالسلطة لا نتعايش مع دولة القانون ولكن مع دولة الأمر الواقع. فى أغلب الفترات التاريخية كانت تعلو السلطة على القانون والحرية. يصدق ذلك فى مصر فى العصر الملكى وما قبله، أو فى عصر نظام 1952 وما تلاه فى خلال حكم السادات ومبارك. ولا ينسى الشعب المصرى قرارات حل الأحزاب السياسية وإلغاء دستور 1923 التى بادر بها ثوار يوليو، ولا ينسون رفض عبدالناصر مشروع دستور 1954 لطابعه الليبرالى وتفضيله دستور 1956 الذى كرَّس لهيمنة الرئيس، ولا ينسى الشعب للسادات أنه قام بتفصيل دستور 1971 على مقاس نظامه أو تعديله سنة 1980 لتمديد فترة حكم الرئيس.
حاول الشعب فى مرات عديدة التمرد على سطوة السلطة على القانون والحرية، ولكن محاولته كانت تنتهى بنجاح محدود يعود بعده كل شىء إلى مثل ما كان عليه وزيادة. والأمثلة لا تُحصى، وعلى مَن يريد أن يتعاطى مع السياسة فى مصر أن يتعامل مع هذه الحقيقة قبولا وتبريرا أو رفضا ومقاومة. ولكل عصر وسلطان فقهاؤه ومُشرِّعوه الذين يفعلون ما يُؤمرون.
كنت أنوى التوقف عن الحديث، ولكن هممت ولم أفعل. أعود إلى قول هذا بمناسبة المشهد الذى استفز المصريين جميعا عند مناقشة برلمان «جماعة دعم سلطة الحكم فى مصر»، أغلب القرارات بقوانين، التى صدرت عن الرئيسين، بعد صدور دستور 2014، وهى تزيد على ثلاثمائة.
مشكلة مجلس النواب- الذى وُلد من رحم النظام كما يُولد طفل الأنابيب- فى التعامل مع القرارات الرئاسية بقوانين تمثلت فى عدة أمور: قصر المدة التى حددها الدستور لإقرارها «خمسة عشر يوما»، وهى بالمناسبة نفس المدة التى كان منصوصا عليها فى دستور 1971 والدساتير السابقة. ويرجع قصر المدة إلى أن المُشرِّع الدستورى لم يكن يتصور أن يُقدم رئيس الجمهورية على إصدار مئات القوانين. وهذه هى المشكلة الثانية المتمثلة فى الزيادة المفرطة فى عدد القرارات بقوانين المطلوب إقرارها ومناقشتها خلال المدة القصيرة، والمشكلة الثالثة أن هذه القرارات بقوانين قد جرى تنفيذها فعلا، وبعضها رتب آثارا قانونية يصعب على الحكومة تحمل تكلفة العدول عنها، فى ظل اقتصاد منهك وواقع سياسى مضطرب. والمسؤول عن ذلك مجموعة المستشارين القانونيين التى أحاطت بالرئيسين ولم تُحسن فهم المادة 156 من الدستور، التى ربطت سلطة الرئيس فى التشريع بحالات الضرورة والاستعجال فقط، وخلطت بين فهمها للمادة 156 من دستور 2014 وما كانت تنص عليه المادة 56 من الإعلان الدستورى السابق، والتى أعطت الرئيس سلطة أصيلة فى التشريع.
والسؤال: ماذا كان على مجلس النواب أن يفعل فى ظل هذه المحاذير والقيود التشريعية والواقعية الثلاثة: قيد المدة، وقيد كثرة التشريعات، وقيد المراكز القانونية التى ترتبت؟
كان أمام مجلس النواب خيارات ثلاثة: أولها أن يتحرر من قيد مدة الأيام الخمسة عشر، باعتبارها موعدا تنظيميا وليس إلزاميا، أو باعتبار أنه يكفى البدء فى عرض القوانين فى الموعد دون إلزام دستورى بالانتهاء من مناقشتها فى الموعد، «وهذا مبدأ أقرته اللجنة القضائية للانتخابات»، وثمة أحكام من المحكمة العليا تؤيد ذلك. فى هذه الحالة كان بوسع مجلس النواب أن يناقش القوانين بروية ونظر ثاقب دون مخالفة الدستور أو اللائحة، فيُقر ما يُقره ويرفض ما يرفضه، ابتغاء المصلحة العامة وحدها. كان الخيار الثانى: أن يقوم المجلس فورا بتشكيل لجانه الدائمة، ويوزع القرارات بقوانين عليها بمعايير موضوعية، ويُلزمها بتقديم تقاريرها فى المهلة المحددة، على أن تُعطى الأولوية لقوانين ترتيبات المرحلة الانتقالية وقوانين الإرهاب والقوانين التى رتبت آثارا يصعب تداركها. والخيار الثالث الأسوأ، «وهو ما فعله رئيس المجلس»: أن يجرى تشكيل لجان خاصة كيفما اتفق، ويجرى توزيع القرارات بقوانين عليها عشوائيا، وتقوم بمناقشتها صوريا فى عدة ساعات، ثم تناقش هذه القوانين فى المجلس مناقشة صورية أيضا، ويجرى إقرارها «أحيانا بإجماع آراء عدد أكبر من عدد أعضاء المجلس». وأزعم أن اتباع هذا المنهج سيُعرِّض نظامنا السياسى والتشريعى لهزات سياسية وقانونية عنيفة لا قدرة للمجتمع على احتمالها أو تحمل تكلفتها.
لماذا؟ لأن المادة 156 من الدستور اشترطت إجراءات ورتبت حكما. أما الإجراءات فهى عرض القرارات بالقوانين، ثم مناقشتها، ثم إقرارها. وأما الحكم الذى يترتب على إغفال أى من هذه الإجراءات فى إقرار القرارات بقوانين فهو «زوال ما لها من قوة القانون دون حاجة إلى قرار آخر».
الإجراء الأول، وهو عرض القوانين على المجلس، تم استيفاؤه. أما الإجراء الثانى، وهو المناقشة، فلم يجْر بشكل جدى ولائحى، وإقرار القوانين الذى ترتب على ما سُمى «المناقشة» هو إقرار باطل، لأنه تم دون مناقشة صحيحة، وبُنى على باطل. ورغم ما حرص رئيس المجلس على إثباته بالمضبطة بأنه تمت مناقشة القانون، فإن العبرة بالواقع. والواقع يقول إن مضابط اللجان قد خَلَتْ من أى مناقشة. ثم إن المادة 156 تخاطب المجلس فى جلساته العامة، ولم تجْر أى مناقشة جدية فى الجلسات العامة، اللهم إلا بالنسبة لعدد من القوانين يُعد على أصابع اليد. كان مقرِّر كل لجنة يقرأ عنوان القانون، ثم يفتح الرئيس باب النقاش لشخص أو شخصين، وكثيرا ما انتهى النقاش بالتأييد، ثم يجرى التصويت من أعضاء لم يقرأ أغلبهم القانون. الهدف الدستورى من المناقشة، وهو الرقابة، قد تخلف بطريقة فاضحة.
المبدأ الأساسى فى فقه الإجراءات أنه إذا تقاعس الإجراء عن تحقيق الغرض منه بطل الإجراء «م 20 مرافعات». المادة 67 من لائحة المجلس توجب «أن يشتمل تقرير اللجنة على إجراءاتها التى اتبعتها، وعلى رأيها فيما أُحيل إليها، وعلى أسباب ذلك، وعلى مجمل الآراء التى أُبديت فى اجتماعات اللجنة». وهذا لم يحدث. المادة 148 تتحدث عن مداولة المجلس فى مشروعات القوانين بقولها: «تبدأ المداولة بمناقشة المبادئ والأسس العامة إجمالا، فيوافق المجلس على المشروع أو يرفضه»، ثم تتحدث المادة 149 من اللائحة عن انتقال المجلس، بعد الموافقة على المبدأ، إلى مناقشة مشروع القانون مادة مادة، بعد تلاوة كل منها. ويؤخذ الرأى فى كل مادة على حدة، ثم فى المشروع ككل. المادة 177 من اللائحة تنص على أنه تسرى بشأن مناقشة القرارات بقوانين نفس الإجراءات الخاصة بمناقشة مشروعات القوانين المنصوص عليها فى اللائحة.
هل التزم المجلس بهذه الضوابط اللائحية عند مناقشة المئات من القرارات بقوانين الرئاسية؟ لا، لم يلتزم، بل أطاح بها وهو يلهث نحو إثباته الموافقة! نعم إن عدم احترام اللائحة لا يترتب عليه بذاته بطلان القانون، ولكن عدم احترام اللائحة، وعدم مناقشة القرارات بقوانين مناقشة حقيقية جدية وفقا لما نصت عليه اللائحة يؤدى إلى إغفال ما نصت عليه المادة 156 من الدستور من ضرورة المناقشة الحقيقية قبل الإقرار. ويؤدى إلى انعدام إقرار المجلس للقرارات بقوانين، لأن ما بُنى على باطل فهو باطل. وانعدام القرار بقانون يتحقق فورا دون حاجة لحكم من المحكمة الدستورية. لأن المادة 156 من الدستور قد نصت صراحة بعبارة واضحة على حكم القرارات بقوانين التى لا تناقش بقولها: «زال ما لها من قوة القانون بأثر رجعى دون حاجة إلى قرار بذلك»، أى يستطيع كل ذى مصلحة أن يدفع أمام أى جهة قضائية بانعدام أى من القرارات بقوانين، التى صدرت بعد صدور دستور 2014 ولم تُناقَش مناقشة صحيحة فى البرلمان، وعلى المحكمة أن تمتنع عن تطبيق هذا القانون. يَصْدُق هذا على قانون انتخابات الرئاسة ومجلس النواب وجميع القوانين المُكمِّلة للدستور وغيرها من القوانين، فكلها ستصبح قوانين منعدمة بكل الآثار التى ترتبت عليها، ومنها انتخاب الرئيس ومجلس النواب.
أرأيتم المنحدر الذى أوقعنا فيه البعض منا ممن يعلنون دعمهم لمصر وحبهم لها وهم فى حقيقة الأمر يُقوِّضون أركانها؟!!!
الاستثناء الوحيد الذى حدث على هذه المخالفات الدستورية كان مناقشة قانون الخدمة المدنية، والتى انتهت بعدم إقرار المجلس له. وهكذا قدَّر أعضاء المجلس أن لقمة خبز الموظفين أهم عندهم من قضايا الحريات واستقلال القضاء واحترام الدستور، فالخبز عندنا دائما أهم من الحرية. ورغم محاولة الحكومة الضغط على النواب بما يشبه الخداع المتعمد بادعاء أن فراغا تشريعيا سيحدث، زعما بأن القانون السابق رقم 47 لسنة 78 قد أُلغى، «والساقط لا يعود»، «علما بأن سقوط قانون الخدمة المدنية يعنى سقوط النص الذى ألغى القانون السابق»، فلم تفلح الحكومة أو رئيس المجلس فى إثناء النواب عن معارضتهم القانون، لأن ملايين الأفواه الجائعة تنتظرهم خارج المجلس. ودلالة هذا أن ما يُسمى «ائتلاف دعم الدولة» سيطير كالعِهن المنفوش عندما يصطدم بإصلاحات تمس عيش الناس.
ومع ذلك، فمازال هناك أمل فى الأفق: أن يتنبه المجلس إلى خطورة ما اقترفت يداه، وأنه بهذا يُهدد صميم البنية السياسية والتشريعية فى مصر. وليشرع ثانية فى تصحيح الإجراءات وإجراء مناقشة حقيقية طبقا للائحة، على الأقل بالنسبة للتشريعات المتعلقة بالبنية السياسية للدولة وأمنها، وهى: قانون الانتخابات الرئاسية، وقوانين مجلس النواب وتقسيم الدوائر ومباشرة الحقوق السياسية، وقوانين مكافحة الإرهاب، وهذا على سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لأنه فى حالتنا هذه لن تنفع القوة ومحاولة فرض الأمر الواقع فى إضفاء الشرعية على أمر مخالف لدستور ارتضاه الشعب. هذا أو الانهيار التام!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة