هذا الزعيم، إلى جانب دراما هاجس السلطنة، يعيش دراما قلق إطاحته. فمرّة قال: إن جماعة أرغاناكون خططت لإطاحته وحكومته،
جميلةٌ جدّاً هذه البلاد. مترامية الأطراف والمشاكل. تعومُ على بحار التاريخ وألغامه. مرهوبة الجانب ومهيبة. «يخافها» الغرب أن تصبح جزءاً من الاتحاد الأوروبي. ويخاف الشرق طموحاتها النيو - عثمانيّة في السيطرة والحكم وإعادة «أمجاد» الأجداد «السلاجقة - العثمانيين». جرّب الناس «خوازيقها». كذلك جرّبوا مسلسلاتها الدراميّة و «قوّتها الناعمة». والآن، يجرّبون «زراعتها الشعر» و «المشاعر» الكونيّة، المابعد قوميّة، المابعد دينيّة، المابعد مناطقيّة...!.
لا يكاد المرء يفتح صفحة «ويب» حتى تطالعه بإعلانات تقنيات زراعة الشعر في تركيا، ومدى حداثتها وجدواها وفاعليّتها ومزاياها. إضافة إلى ذلك، ثمّة سرد لفوائد زيارة تركيا لزراعة الشعر، باعتبارها سياحة وطبابة في الآن عينه، وأن تكاليف عمليّة زراعة الشعر ونفقاتها، تشمل نفقات السفر والإقامة... وما إلى ذلك.
هذه البلاد التي كانت نموذجاً لحكم العسكر وانقلاباتهم، وإرهابهم وخنقهم الحرّيات، ونموذجاً للدولة - الأمّة، العلمانيّة، وصارت الآن نموذجاً لحكم الإسلاميين، وانقلاباتهم على بعضهم، وإرهابهم، وخنقهم الحريّات، ونموذجاً للدولة - الأمّة الإسلامويّة، كما صارت محجّاً للتكفيريين، والإخونجيين، والجهاديين، وللصلعان سياسياً من النخب العربيّة، الإسلاميون منهم والعلمانيون، من طالبي زراعة الشعر.
خلال عقد من الزمن، خلبت المسلسلات الدرامية وسلبت عيون المواطنين العرب وقلوبهم وعقولهم. وصار هؤلاء ينظرون إلى تركيا نظرتهم إلى مسلسلاتها الدرامية، ولا يعرفون شيئاً، أو يتجاهلون الدراما الحقيقيّة التي تخفيها هذه المسلسلات. دراما الزعيم القومي الإسلامي الذي كان يحلم بأن يكون رئيساً، وينام في قصر «تشان كايا»، وصار يحلم بأن يصبح «سلطان البرّين وخاقان البحرين»، بعد أن بنى لنفسه قصراً أسماه «البيت الأبيض» التركي!. هذا الزعيم «المفدّى» الذي وصفه يوسف القرضاوي مراراً بـ «الطود الشامخ»، لم يبقِ في تركيا فريقاً إلاّ ودخل معه في حالة عداء أو خصومة. ذلك أنه وصف أصحاب حركة الاحتجاج في ما عرف بقضيّة «غيزي بارك» بأنهم «رعاع، لصوص، خونة»، ووصف أنصار «الشعب الجمهوري» بالأوصاف نفسها. كذلك وصف أنصار حليفه السابق الداعية فتح الله غولن، بـ «الكيان الموازي. الجماعة الإرهابيّة. الخونة. دعاة انقلاب على الشرعية. جواسيس أميركا وإسرائيل». أما الأوصاف التي أطلقها على الكرد و «العمال الكردستاني» فحدّث ولا حرج.
هذا الزعيم، إلى جانب دراما هاجس السلطنة، يعيش دراما قلق إطاحته. فمرّة قال: إن جماعة أرغاناكون خططت لإطاحته وحكومته، حين كان رئيساً للوزارة. كذلك تحدّث عن مخطط «باليوز - المطرقة الضخمة»، للانقلاب على الحكومة. وعلى خلفيّة هذين المخططين الافتراضيين، زجّ بالمئات من الضبّاط والجنرالات في السجون. ثم عاد وأطلق سراحهم بحجّة أن «جماعة غولن هي من لفّق التهم لهؤلاء الأبرياء»!.
هذا الزعيم، سابقاً، عندما كان يُوصف بعدم امتلاكه نيّة وإرادة حلّ القضيّة الكرديّة! كان يردّ بأنه عازم على حلّ هذه القضيّة، إلاّ أن «العسكر يمانعون»!. وكشفت الأيّام زيف هذا الادعاء. ليس هذا وحسب. فقد هاجم أردوغان، قبل أيّام، المئات من قادة الفكر والرأي من الأكاديميين الأتراك الذين وقّعوا مع أكاديميين أجانب، على بيان يطالبون فيه بوقف العمليّات العسكريّة ضدّ المدن الكرديّة جنوب شرقي تركيا، وبحلّ القضيّة الكرديّة سلميّاً، وهدّدهم بالقول: «هل تعتقدون أنكم ستستطيعون تهديد وحدة هذه الأمة، والاستمرار في عيش حياة كريمة بفضل الراتب الذي تتقاضونه من الدولة، من دون دفع الثمن؟»، مضيفاً: «في دولة قانون مثل تركيا، لا يحق لأكاديميين مزعومين يهددون وحدة الأمة، ارتكاب جرائم، إنهم لا يتمتعون بحصانة»، واصفاً إيّاهم بـ «الخونة»!. ورفع القضاء التركي الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم، دعاوى تحقيق بحقّ أكاديميي تركيا، بسبب توقيعهم على البيان المذكور.
والحقّ أنه كلما وُجّه انتقاد إلى بؤس الدراما التي تعيشها تركيا، وبؤس بطلها «الطود الشامخ»، قفز الى الواجهة بعض الإخوة العرب، ساردين إنجازات أردوغان على الصعيد الاقتصادي. ولا أعلم ما فائدة اقتصاد ناهض، يحاول أردوغان استخدامه كسوط وسيف مسلط على الأتراك، ويبتزّهم به! بحيث منحهم الاقتصاد وسلب منهم الحريّات والديموقراطيّة!؟.
لكن يبقى أن تركيا نجحت أيّما نجاح، في تقنيّة زراعة الشعر للكثير من النخب السياسيّة والثقافيّة العربيّة ممن يعانون الصلع السياسي، بخاصّة منهم ذوي التوجّه الإخواني، لكنها فشلت في زراعة المشاعر، عند من يعانون، فضلاً عن الصلع السياسي، التصحّر الأخلاقي وانعدام الحس الإنساني بالعدالة والحرّية. ما يعني أن الدراما التي تعيشها تركيا وأردوغانها، في الوقت عينه، يعيشها كثر من الإخوة العرب، بحيث تراهم أردوغانيين أكثر من أردوغان نفسه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة