شرَع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تأسيس دعائم الدولة فى مجتمع المدينة المنورة فور هجرته إليها
شرَع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تأسيس دعائم الدولة فى مجتمع المدينة المنورة فور هجرته إليها، حتى قبل نزول تشريع العقوبات والجنايات، بل قبل نزول تشريع بعض العبادات التى عليها عماد الإسلام ومداره كالزكاة والصيام والحج.
ولا ريب أن هذا مسلك حكيم حافظ على العرب من الهزات الاجتماعية والسياسية، ومن الفتن العنصرية العاصفة، فقد نقلهم تدريجيًّا من نظامهم السياسى والاجتماعى الذى ورثوه عن آبائهم إلى نظام سياسى واجتماعى انصهرت فى بوتقته سمات القبلية ومظاهر الجاهلية، وحلَّت محلهما الوحدة الفكرية والتماسك الاجتماعي، ومن ثَمَّ سادت الألفة والمودة فى المجتمع رغم اختلاف فئاته وتباين معتقداتهم، ويشير إلى ذلك قوله تعالى فى معرض الامتنان على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين: )وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا( [آل عمران: 103]. ونلاحظ أن الدولة فى هذا العهد الخالد قد انطلقت من نقطتين أساسيتين: أولاهما: أنها دولة ترعى منظومة القيم والأخلاق، وتحيى ما ذهب منها؛ رجاء تحقيق مجتمع مثالى تسوده المودة والعدل. وثانيهما: أنها دولة تقوم على الحضارة المستمدة من دِين الإسلام وما ينبثق عنه من أحكام ونظم. وتُعَدُّ هاتان الركيزتان أساس مصالح الناس ومقاصدهم، ويشير الإمام أبو حامد الغزالى إلى هذه المعانى بقوله: «مقاصد الخلق مجموعة فى الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهى الآلة الموصِّلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة، ومنزلًا لمن يتخذها مستقرًّا ووطنًا». وقد لاحظ الصحابة الكرام رضى الله عنهم من ذلك ضرورة وجود الدولة واستمرار هيبتها، فاهتموا بتولية أبى بكر الصديق رضى الله عنه يوم السقيفة قبل مواراة جسد النبى صلى الله عليه وسلم فى قبره الشريف، وعلى ذلك جرى المسلمون عبر العصور؛ حيث ذهب أهل السنة والجماعة إلى وجوب تنصيب من يقوم على شئون الدولة والأمة وجوبًا شرعيًّا، لكن هذا الوجوب من الأحكام العملية الفرعية، ولا يرقى بحال أن يكون من أصول العقيدة، وعن ذلك يقول الآمدي: «اعلم أن الكلام فى الإمامة ليس من أصول الديانات؛ بل من الفروعيات». كما أن هذا الأمر كفائيٌّ وقائم على الاجتهاد، يقول الإمام أبو الحسن الأشعرى فى تقرير ذلك: «إن إقامة الإمام والاجتهاد فى نصبه عند الحاجة إليه وفقد من قبله من فروض الكفاية، كدفن الموتى وغسلهم والصلاة عليهم وتعلم الفقه ونحو ذلك مما إذا قام به بعض الأمة سقط عن الباقين». وتُقرر الأمور سالفة الذكر أن الحاكم فى الدولة تختاره الأمة شريطة أن يكونَ قد حاز مؤهلات هذا المنصب الرفيع، يقول الإمام الأشعري: “وأما الإمام فإنما تثبت إمامته وتنعقد بعقد العاقدين له ممن يكون لذلك أهلاً”. ولقد اهتم المسلمون ببناء الدولة من خلال بناء مؤسسات قوية تقوم بضبط أمور الناس وتسوس شئونهم سياسة رشيدة، فاهتموا بأمر الجند والشرطة والقضاة والعلماء، فضلاً عن أرباب الحرف والصناعات.
كما نلاحظ أن بناءهم للدولة كان أيضًا ببناء المدن الجديدة، مع رسم خطتها وفق ما تقتضيه المدنية والحضارة، وخير شاهد على ذلك ما قام به أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه فى بناء مدينة الكوفة بالحجارة وفق تخطيط محكم.
ولما كان تأريخ الأوامر والقوانين أمرًا لا غنى عنه فى تنظيم وقت الأمم والدول قدمت الحضارة الإسلامية إلى البشرية التقويم القمرى الهجري، الذى ترجع بداية التأريخ بالهجرة النبوية الشريفة (1/1/1 هـ، والذى يقابل 15/7/622 م) إلى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حيث تشاور مع الصحابة رضوان الله عليهم فى ذلك، ثم أجمعوا أمرهم على التأريخ بالهجرة الشريفة. وهو سلوك حضارى عام، نجده فى كل الحضارات الإنسانية الكبرى التى دائمًا ما اعتزت بتقاويمها المعبرة عن هويتها، فى الوقت الذى اتسعت فيه أفقها فى استعمال المقاييس والمعايير والتقاويم المتنوعة التى تطورت وتنوعت متسقة مع تقاويمها الوطنية، وكانت للحضارة الإسلامية- شأنها شأن غيرها من الحضارات- إسهامها الحضارى فى مجال المعايير والمقاييس والتقاويم، حيث كان إيجاد نظام مستقر ودقيق للتقويم أحد المشكلات الدقيقة التى واجهتها البشرية عبر تاريخها الطويل. وظل العرف التشريعى والرسمى جاريين فى البلدان الإسلامية على ما جرى عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا بلا نكير- من اعتبار التقويم الهجرى هو الأصل- فارقًا بين تاريخ إصدار وتطبيق ونفاذ التشريع والذى يأخذ حكم الشعار، وعليه فاطرد بتأريخه بالهجرى مشفوعًا بالميلادي، وبين المدد والآجال التى ينظمها التشريع من جهة أخرى والذى اتبع فيها العرف السائد أو ما كان أضبط للآجال، وهو ما لا تعارض فيه مع الشرع الشريف.
وبذلك حرص الإسلام فى عهوده الأولى على تأسيس مقومات الدولة وبناء كيانها وهيكلها الأساسى لِما للدولة من أهمية فى النهوض الحضارى وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة