والسؤال الآن عن الصلة بين العلم والسياسة كما كان السؤال من قبل بين الدين والسياسة. وهو ما طرحه الفلاسفة من قبل
إذا كان هناك ارتباط بين الدين والسياسة، فالتوحيد حركة تحرر من كل أشكال الظلم والطغيان بالرفض المبدئى «لا إله إلا الله»، وكان الدين علمًا، والعلم دينًا فإن العلم سياسة. والسياسة علم. وإذا كان الدين ليس له مؤسسة كهنوتية حتى لا يتحول إلى سلطة فإن العلم له مؤسسة هى الجامعة أو دور العلم أو المسجد عندما كان يؤدى وظيفة المدرسة.
والسؤال الآن عن الصلة بين العلم والسياسة كما كان السؤال من قبل بين الدين والسياسة. وهو ما طرحه الفلاسفة من قبل بين النظر والعمل أو الفقهاء بين العقيدة والشريعة. وبعد سؤال عملى يطرحه الواقع علينا عندما ندخل الجامعة فنجدها أشبه بمعسكر والعربات المصفحة والجنود بالخوذات وبالعصى أو كما قال أحد الزوار لرئيس الجامعة: هل أنتم فى حرب؟ وكيف يكون الحرم الجامعى حرما والمتاريس بين طرقاته فلا يستطيع أحد المرور كما تفعل إسرائيل فى الحرم القدسى؟ هو سؤال عملى من الواقع العملى وليس سؤالا نظريا من كتب فلسفة الدين أو فلسفة السياسة. سؤال فرضه الواقع اليومى عندما يدخل الأستاذ ليحاضر أو الطالب ليستمع فيصطدم بالمؤسسة التعليمية. وهل يجوز للطالب أن يسأل سؤالا أو أن يجيب الأستاذ خشية أن يخرج من العلم إلى السياسة؟ ويعانى الأستاذ والطالب معا من الحرس الجامعى وما يزمع وضعه من بوابات إلكترونية وأمامها الطوابير الطوال مثل ركاب الطائرات التى لم تمنع من التفجير لمن يريد.
فهل يمكن الفصل بين العالم والمواطن؟ هل يمكن التمييز بين هموم الفكر وهموم الوطن؟ هل للإنسان شخصيتان، داخل المدرج كعالم وفى الحرم الجامعى كمواطن؟ وهل للإنسان لغتان، لغة داخل المدرج كعالم ولغة أخرى كمواطن فى ميدان التحرير؟ ثم نشكو أزمة التعليم الجامعى، وعزلته عن الحياة العامة. نشكو هجرة الأوطان إلى بلاد أخرى حتى لو كان الثمن هو عبور البحار والغرق أو الوصول للبر فى المعتقل كهجرة غير شرعية. فإذا أصبح الأستاذ الجامعى رئيسا استقبل فى الجامعة باعتباره الرئيس وأطلقت له واحد وعشرون طلقة. وصدحت الموسيقى بالسلام الوطنى بدلا من أن يستقبل كأستاذ بروبه الجامعى والأساتذة بالأرواب احتراما للجامعة. والحرم الجامعى كالحرم القدسى والحرم المكى.
ولا فرق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أو الرياضية. فكلتاهما دراسة للإنسان. كليات الآداب والحقوق رمزا الجامعة يمينا ويسارا يمثلان العلوم الإنسانية وكليات العلوم والهندسة والتجارة والطب تمثل أيضا الإنسان فى حاجاته العملية، السكن والرزق والعلاج. وحقوق الإنسان موضوع مشترك بين الآداب والحقوق والعمل موضوع مشترك بين الآداب والتجارة. والصحة موضوع مشترك بين الهندسة والعلوم والطب. والحرية موضوع مشترك بين العلوم الإنسانية والسياسية، أصولا وممارسة.
ومن الطبيعى أن يكون فى العلوم الإنسانية وجهات نظر متعددة يتم الحوار بينها داخل مدرجات الجامعة. أما الممارسات الفعلية للأحزاب السياسية فإنها تقوم على الجدل والتعصب والمصالح الضيقة. فيستحسن أن يتم النقاش فيها خارج الجامعة وفى المنتديات الجامعية، كما تناقش فى الأحزاب السياسية. فالتعصب الحزبى ضد الحياد العلمى. والمصلحة الشخصية لجماعة أو طبقة ضد المصلحة الوطنية العامة. كل حزب يعتبر نفسه «حزب الله» والآخر «حزب الشيطان». ولا يوجد إله أو شيطان فى الجامعة بل هناك عقل يحلل، وذهن يفكر، وقلب ينير. والسياسة جزء من العلوم الإنسانية مثل الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والفلسفة. وتحرص العلوم الإنسانية على التطبيق. لذلك تسمى العلوم السلوكية. والإعلام الذى تعتمد عليه السياسة كثيرا جزء من العلوم السياسية. وإذا كانت غاية الأحزاب النهضة أو الإصلاح أو التقدم أو الثورة فكلها موضوعات فى العلوم السياسية وأسماء أحزاب فى نفس الوقت، الإصلاح والنهضة فى تونس، العدالة والتنمية فى المغرب ومصر، البعث فى سوريا والعراق. والحرية علم. وطالما صاغ الفلاسفة نظرياتهم فى الحرية والتحرر وفى السياسة فى نفس الوقت. والاستبداد علم بالبحث عن أصوله ومصادره، بدايته ونهايته كما فعل الكواكبى فى «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». وهى مطمح كثير من الأحزاب. والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية موضوعات علمية وعملية فى نفس الوقت. هى دراسة نظرية مثل «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» لسيد قطب، وأسماء الأحزاب فى المغرب وتركيا. و«حقوق الإنسان» موضوع نظرى وعملى فى نفس الوقت. هو بحث نظرى لمعرفة حقوق الإنسان دون واجباته. وهى ممارسة عملية لمعرفة مدى تطبيقها أو خرقها أو الخروج عليها، وكتابة التقارير عنها فى المحافل الدولية. و«التعددية» موضوع فلسفى نظرى وممارسة عملية فى نفس الوقت بإقامة مجتمع متعدد الآراء، ومختلف الاتجاهات.
و«الأيديولوجيات» موضوع فى الفلسفة السياسية النظرية قبل أن تكون تنظيمات حزبية. فالليبرالية لا تحتاج إلى تنظيم لأنها ليبرالية اقتصادية وليست ليبرالية فكرية. وهو المطلوب، «ليبرالية حاملة للنظام الرأسمالى» بما فى ذلك الليبرالية الجديدة. و«القومية» حركة سياسية وافدة من الشام وتبناها عبدالناصر بعد العدوان الثلاثى على مصر فى 1956 عندما رأى فيها خير سند لمصر للدفاع عن نفسها. وبلغت ذروتها فى الوحدة المصرية السورية فى الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961. تبنتها النخبة كأيديولوجيا والجماهير كحركة سياسية. وارتبطت الاشتراكية بها فى الاشتراكية العربية الديموقراطية. وإن تحققت الأولى، الاشتراكية، بقرار من الدولة فلم تتحقق الثانية حتى الآن حتى بعد الثورة الشعبية فى يناير 2011. وظلت الماركسية معزولة فى ركن خاص أو منضمة تحت لواء الاتحاد الاشتراكى العربى. وقد كانت الاشتراكية العربية مادة تدرس فى الجامعات وكأنها امتداد للاتحاد الاشتراكى العربى. وكانت أيديولوجية منظمة «الشباب» داخل الجامعة وخارجها.
وقد نشأت الجامعة المصرية عام 1925 نتيجة لثورة 1919 ارتباطا بين الجامعة والوطن. واستأنفت الحركة الوطنية مسارها فى لجنة الطلبة والعمال 1946 للمطالبة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. ثم حدث صدام بين الحركة الطلابية والحركة الحزبية من ناحية والضباط الأحرار من ناحية أخرى فى 1954 قبل أن تتم المصالحة بين الفريقين، بعد تأميم القناة والعدوان الثلاثى فى 1956. ثم تعود الحركة الطلابية من جديد للتظاهر فى مارس 1968 احتجاجا على الأحكام التى صدرت على قادة الطيران الذين كانوا سببا فى هزيمة 1967. وتستمر الحركة الطلابية فى النضال الوطنى مطالبة بتحرير البلاد من الاحتلال الإسرائيلى فى سيناء فى 1971-1972 والتى كانت الدافع الأقوى وراء حرب أكتوبر 1973 وانتصار الجيش المصرى ثائرا لكرامته. ولما أخذ ذلك مقدمة للانفتاح الاقتصادى والتحول فى الأحلاف من الشرق إلى الغرب وعقد اتفاقية كامب ديفيد فى نوفمبر 1977 بعد مظاهرات الطلاب فى يناير 1977 ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل فى إبريل 1978. وقامت مظاهرات الطلاب للتخلص من هذا الانحراف الثورى مما أدى إلى التخلص من الرئيس نفسه فى 1981 كرد فعل على الفصل التعسفى للأساتذة والإعلاميين وأنبا الأقباط. وانشغلت الحركة الطلابية بأمورها الدنيوية، العمل ضد البطالة والاستقرار العائلى أو الهجرة، شرعية أو غير شرعية خارج البلاد. وعمّ الفساد بتحقيق شعار «الرأسمالية ليست جريمة» حتى عادت الحركة الطلابية إلى النشاط فى 2003 كرد فعل على الغزو الأمريكى للعراق، حتى نشبت الثورة الشعبية فى يناير 2011، والطلبة فى قلبها.
لم يكن الجمع بين العلم والسياسة، بين الفكر والوطن أمرًا غريبًا، فهو ما حدث فى الغرب أيضا فى ثورة الشباب فى فرنسا 1968. وقد نظّر الفلاسفة لها مثل ماركوز فى «العقل والثورة»، وأورتيجا فى «فكرة الجامعة» نصيرا للجمهوريين ضد الملكيين فى الحرب الأهلية فى إسبانيا. وكان مصطفى مشرفة نموذجا للجمع بين العالم والمواطن، بعد أن رفض عرض آينشتاين للعمل معه عائدا إلى جامعته لبناء قسم الطبيعة. واستمرت الرموز فى أحمد لطفى السيد وضحايا الصدام بين الجامعة والسياسة فى 1954 ثم فى 1980. وخشيت السلطة السياسية من وقتها مقابلة جمهور المثقفين فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فتغيب الرؤساء خشية النقاش حول الديموقراطية وحكومة الظل.
إن الجمع بين المدرج الجامعى وميدان التحرير فى رسالة واحدة، من أجل الوطن وليس من أجل الحزب، من أجل التاريخ وليس سعيًا وراء السلطة. فالعلم هو الوطن. وكلاهما تمثله الجامعة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة