من يستمع إلي المرشحين الأمريكيين للرئاسة، خاصة من الحزب الجمهوري؛ لابد وأن يتساءل: هل هذا هو المستوي المحتمل للرئيس القادم؟
من يستمع إلي المرشحين الأمريكيين للرئاسة خاصة من الحزب الجمهوري لابد وأن يتساءل: هل هذا هو المستوي المحتمل للرئيس القادم للولايات المتحدة؟
هذا الأمر ليس له علاقة بالاتفاق أو الاختلاف مع أي مرشح... فمن الممكن أن تختلف مع أي سياسي لكنك في الوقت نفسه تحتفظ داخلك باحترام خاص له ولقدراته الشخصية والفكرية ولخبراته التي تمكنه من التعامل مع قضايا داخلية وعالمية في غاية التعقيد... لكن ما نراه الآن مع بعض هؤلاء المرشحين لا يعطي اطمئنانا بأن من يوصف هنا بأنه "زعيم العالم الحر" سيكون أهلا لهذا اللقب.
لننظر مثلا إلي المرشح البارز تيد كروز وهو سيناتور من ولاية تكساس، فهو لم يكد يدخل مجلس الشيوخ منذ ثلاث سنوات فقط حتي أصبح مكروها من كل المحيطين به خاصة من زملائه الجمهوريين بسبب لغته ومواقفه الحادة والمستفزة... وقد كان سببا في إغلاق الحكومة الفيدرالية لعدة أيام لإصراره علي عدم توفير نفقاتها دون تحقيق أهداف يعلم جيدا استحالة تنفيذها مثل إلغاء قانون الرعاية الصحية الذي يعد أبرز إنجازات الرئيس أوباما الداخلية... لكنه من أجل أن يبرز نفسه أمام قاعدته السياسية من المحافظين المتطرفين لم يكن يبالي بإغلاق الحكومة.
لذلك فرغم كل ما يثار حول دونالد ترامب من مشاكل فإن تيد كروز يمثل خطرا أكبر في حالة فوزه... فهو عقائدي (Dogmatic) وليست لديه المرونة والبراجماتية التي يتميز بها ترامب كرجل أعمال اعتاد العمل مع كل ألوان الطيف السياسي والديني والعرقي... صحيح أنه اتجه إلي الشعبوية في لغة خطابه إلا أن الكل يدرك أنها حيلة انتخابية لاستقطاب التأييد بعد أن أصبح المزاج العام بين الجمهوريين أكثر غضبا وتمردا ليس فقط علي أوباما والديمقراطيين ولكن أيضا علي القيادات الجمهورية ذاتها... هذا يفسر أن الثلاثة الأبرز في السباق الجمهوري ترامب/كروز/كارسون هم من خارج المؤسسة الرسمية للحزب، وحتي المرشح الرابع الذي برز مؤخرا كسياسي قادر علي توحيد الحزب وهو السناتور ماركو روبيو، فإنه هو نفسه فاز بمقعده في مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا باعتباره مرشح (حزب الشاي) أي التيار الغاضب والمتمرد داخل الحزب الجمهوري... فهذا هو عام الرفض والتمرد داخل الحزبين... رأينا ذلك أيضا لدي الديمقراطيين الذين احتشد الكثيرون منهم حول مرشح يصف نفسه بأنه اشتراكي وهو السناتور بيرني ساندرز، في مؤشر ليس فقط علي مدي تحرك الحزب نحو اليسار بل أيضا علي انتشار الشعور بالغضب والإحباط من قيادات الحزب ومؤسسته الرسمية.
لكن يذكر للمرشحين الديمقراطيين أن "شعبوية" الانتخابات هذا العام لم تنحدر بخطابهم السياسي إلي لغة التمييز والعنصرية بل والتهييج المتعمد كما فعل ترامب وكروز وغيرهما تجاه المهاجرين غير الشرعيين أو المسلمين، كما أن الديمقراطيين لايزالون -إلي حد ما- يتناقشون بعقلانية حول القضايا الهامة وهو ما لا يفعله أغلب الجمهوريين... فعندما يقرر أوباما مثلا بعض الإجراءات الإضافية لمنع وصول الأسلحة النارية للمجرمين أو المختلين عقليا، يخرج المرشح ماركو روبيو ليقول لجمهوره إن أوباما يريد نزع أسلحتهم... الأسلوب نفسه يتكرر عند الحديث حول مواجهة "داعش" والإرهاب.
فهم في سبيل (تسخين الجو) يدلون بعبارات لا يمكن استخدامها بخفة، مثل ذلك قول تيد كروز إنه سيلجأ للاستخدام الشامل والساحق للقنابل حتي يتوهج الرمل في المنطقة، هذا الكلام لا يخرج عن أحد احتمالين: الأول أن الرجل لا يدري ما يقول.. فهذه ليست حربا تقليدية يمكن فيها الاستخدام الشامل للقوة، فعناصر قوات داعش ليست متجمعة في مواقع ثابتة بأسلحة ثقيلة بحيث يمكن للقصف الشامل أن يدمر مطاراتها وموانئها ودباباتها، وهم بانتشارهم في مناطق مدنية فإن استراتيجية كروز -وبدرجة أقل ترامب- تعني إفناء مدن بأكملها أو حرق "كومة" قش بحثاً عن فأر... في الاستراتيجية العسكرية هذا يعني قصورا في الفهم وخللا في الأداء، ولأن كروز مثل ترامب لديه مستشارون سياسيون وعسكريون ذوو خبرة، فإن هذا يقودنا إلي الاحتمال الثاني وهو أنه يعلم أن ما يقوله هراء وغير قابل للتحقيق عمليا لكنه يلجأ إليه في إطار تلك "الشعبوية" التي حكمت السباق الانتخابي حتي الآن داخل الحزبين.
النتيجة أن المرشحين ذوي الخبرة والمعرفة تراجعوا بقوة.. مثال علي ذلك جيب بوش الحاكم السابق لولاية فلوريدا الذي كانت عائلته تتصور أنه المؤهل لهذا المنصب قبل أن يسبقه إليه شقيقه الأكبر جورج بوش. كذلك فإن نسبة تأييد جون كاسيك حاكم ولاية أوهايو وكريس كريستي حاكم نيوجيرزي ظلت محدودة حتي الآن رغم خبرة الاثنين الكبيرة، لكن بضاعتهما كاسدة هذه الدورة الانتخابية.
هذه المشكلة تواجه أيضا هيلاري كلينتون بين الديمقراطيين.. فرغم استمرار تقدمها (نسبيا) علي المستوي القومي إلا أنه تأييد هش وفي تراجع.. وهي عندما تتحدث عن خبرتها السابقة كسيدة أولي أو سيناتور ثم وزير للخارجية فإنها تقدم بضاعة لا يبحث عنها الناخب هذا العام.. فالمزاج العام يبحث عن صورة جديدة وليس تطويرا لما هو قائم.. هيلاري تبنت سياسات أوباما وبالتالي ربطت نفسها بالماضي، بينما يتحدث ساندرز عن تغيير كبير في المفاهيم والسياسات أي بلغة أخري يتجه إلي المستقبل.. فهو مثلا لا يربط نفسه بإنجاز أوباما الأكبر للرعاية الصحية ويبحث عن حلول أكثر راديكالية تشمل خيارات عامة تقدمها الحكومة دون قصرها علي الشركات الخاصة.
هذه طموحات قد تسعد الديمقراطيين، لكنها غير قابلة للتحقيق في ظل التوازنات الموجودة في واشنطن. فقد سعي أوباما لتحقيق ما يطالب به ساندرز لكنه فشل رغم وجود أغلبية مؤيدة له في مجلس الشيوخ عند تمرير القانون، وبالتالي لا يتصور أحد أن بإمكان ساندرز تحقيق أحلامه مع كونجرس يسيطر عليه الجمهوريون بفارق كبير، وهو كعضو قديم في مجلس الشيوخ لابد وأنه يعلم ذلك، لكنها السياسة وأساليب الحشد الانتخابية التي يلجأ إليها المرشحون.
لقد اعتدنا علي هذه الأساليب كثيرا في الانتخابات الأمريكية، لكن ما نراه الآن هو نوع من الشعبوية والانحدار غير المسبوق في استرضاء مزاج عام غاضب وحاد ولا يقبل بالحلول الوسط وغير مستعد لمخاطبة العقل.
اليوم لا صوت يعلو علي صوت المعركة، إن لم تكن ضد داعش فهي ضد كل ما هو مرفوض سواء ما يتعلق بالأسلحة النارية أو السياسات الاقتصادية أو حق الإجهاض وغيرها، في كل هذه القضايا هناك استقطاب حاد يفرض نفسه علي لغة الخطاب العام وعلي الحملات الانتخابية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة