وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم...
نقف اليوم عند عصر المماليك وعلى وجه التحديد في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجريين القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، تلك الفترة التي تعد قلب العصر الذهبي للكتابة التاريخية في مصر والشام في العصور الوسطى، حيث نبغ خلالها مجموعة من أبرز المؤرخين الذين عرفتهم الحضارة الإسلامية، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن بعض هؤلاء المؤرخين تركوا بصماتهم واضحة على تطور التأريخ على المستوى العالمي؛ فقد شهد ذلك العصر تنوعًا واسعًا في المؤلفات التاريخية ما بين الحوليات، وكتب خطط المدن وتواريخها، والسير والتراجم، فضلًا عن المؤلفات الموسوعية الضخمة والرسائل التاريخية الصغيرة، لقد عاش في ذلك العصر من أعلام مؤرخي الحضارة الإسلامية في مصر: القلقشندى وابن خلدون والعيني وجمال الدين أبو المحاسن والصيرفي والمقريزي.
وحديثنا عن أبرز مؤرخي ذلك العصر وأكثرهم نبوغًا تقي الدين أحمد بن على المقريزي، الذي جمع ما بين أنواع التأليف التاريخي المختلفة، والذي يكاد المتخصصون في تاريخ العصور الوسطى العربية يجمعون على أنه شيخ مؤرخي مصر وكبيرهم، وأن أعماله تمثل قمة النضج لمدرسة التأريخ عند العرب والمسلمين.
لكن قبل أن نتعرف على مؤرخنا، فلنلق نظرة على مصر في ذلك العصر، لقد كانت مصر في تلك الحقبة تعيش لحظات تحول وانتقال في تاريخها؛ فقد خرجت من محنة الفناء الكبير أو الموت الأسود الذي خرب العالم القديم كله من مشرقه إلى مغربه في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت البلاد تحاول أن تستعيد قواها مرة أخرى بعد أن أنهكها الوباء القاتل واستنزفها عندما حصد أرواح مئات الآلاف من البشر، ومن ناحية أخرى كانت الصراعات السياسية تعصف بكيان الدولة، دولة المماليك البحرية التي ظهرت إلى الوجود على أنقاض الدولة الأيوبية عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي، وبمجرد نجاح تلك الدولة في مهمتها التاريخية في عصر خليل بن قلاوون بدأت تفقد مبرر وجودها التاريخي، وبدأ الضعف يدب في كيانها، ونجح بالفعل أحد الأمراء الكبار وهو برقوق بن انص في الاستيلاء على السلطنة وإقامة دولة جديدة هي دولة المماليك الجراكسة التي تأسست في سنة 784 هجرية، ورغم أن السنوات الأولى لهذه الدولة قد شهدت دفعة قوية للبلاد على يد السلطان الجديد الظاهر برقوق، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى التدهور المتسارع في عصر خلفائه ودخلت مصر في أزمة تاريخية خانقة لم تستطع منها فكاكًا رغم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها سلاطين من أمثال برسباي وقايتباي خلال القرن التاسع الهجري، وانتهى الأمر بسقوط مصر في براثن الاحتلال العثماني سنة 923 هجرية الموافقة لسنة 1517 ميلادية.
في هذا الإطار التاريخي ظهر المقريزي؛ فمن هو؟
إنه تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي"، وهو مصري من أب من "أصل لبناني"، بلغة اليوم، وأم قاهرية، ولد في حارة برجوان -بقسم الجمالية الآن- في القاهرة القديمة والتي تنسب إلى أحد رجال الدولة الفاطمية في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، وكان مولد المقريزي في سنة 766 هـجرية الموافقة لسنة 1364 ميلادية، وفي هذه الحارة نشأ وتربى وتعلم، وكان المقريزي يعتز بانتسابه إلى حارته، فيقول في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار": "وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة"، ولا أعرف شخصيا سبب هذه المفاخرة، ورغم حب المقريزي لمصر التي قال عنها: "كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي"، ورغم المناصب التي تقلدها في مصر فقد عاش قسمًا من حياته متنقلًا بين القاهرة ودمشق ومكة هربًا من الاضطراب السياسي أحيانًا وجريًا وراء سبل العيش أو جمع المعارف أحيانًا أخرى.
وترجع أصول المقريزي وأسرته إلى مدينة بعلبك اللبنانية وتنسب أسرته إلى حارة المقارزة بها، وقد استقرت أسرته في مصر قبل مولده بسنوات قليلة، وينتمي المقريزي إلى أسرة اشتهرت بالاشتغال بالعلم في دمشق وبعلبك والقاهرة، وقد انتقل والده من مدينة بعلبك بلبنان إلى القاهرة حيث عمل بديوان الإنشاء، والذي كان يعتبر من أهم دواوين الدولة في ذلك العصر؛ فقد كان الديوان المختص بمتابعة العلاقات الخارجية للدولة، كما كان يشرف على حماية أمنها الخارجي بتتبع جواسيس الدول الأجنبية في البلاد وملاحقتهم، وإرسال الجواسيس في نفس الوقت لنقل الأخبار إلى سلطنة المماليك، هذا فضلًا عن الوظيفة الأصلية لذلك الديوان، أعني تحرير الوثائق الرسمية للدولة والاحتفاظ بنسخ منها، ومن هذه الوظيفة اكتسب الديوان اسمه باعتباره يختص بإنشاء الوثائق.
وقد كانت دراسة أحمد بن على المقريزي دراسة دينية مثل أهل العلم في عصره، وبعد أن درس المقريزي علوم الدين أصبح شافعي المذهب، بعد أن تنقل بين مذهبي جديه لأبيه وأمه، فقد كان جده لأبيه حنبليا وجده لأمه حنفيا، وتتلمذ هو على يدي أبرز فقهاء المالكية في عصره عبد الرحمن ابن خلدون، لكنه في النهاية اختار الشافعية مذهبًا له وتفقه فيه باعتبارها المذهب السائد بين أهل مصر.
وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم والسبب وراء شهرته التي عبرت الزمان والمكان، فقد التحق كوالده بالعمل في ديوان الإنشاء كأحد الكتاب به، فاتصل من خلال عمله بكبار رجال الدولة، لكن المقريزي لم يستمر في وظيفة الكتابة بديوان الإنشاء طويلًا حيث انتقل للعمل في سلك القضاء فأصبح نائبًا من نواب قاضى القضاة الشافعي، كما تولى وظيفة محتسب القاهرة والوجه البحري في زمن السلطان الظاهر برقوق، وتنقل المقريزي ما بين القاهرة ودمشق ومكة، واشتغل بتدريس الحديث النبوي في المدرسة المؤيدية بالقاهرة والمدرستين الإقبالية والأشرفية بدمشق، كما تولى إقامة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي بالقاهرة.
والمقريزي أبرز تلاميذ مدرسة عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ ومؤسس علم العمران، علم الاجتماع بلغتنا المعاصرة، وكان المقريزي التلميذ الذي فاق أستاذه وتفوق عليه، لقد عاش الرجل في عصر وصلت فيه الكتابة التاريخية العربية في مصر والشام إلى قمتها، واتجه إلى الاشتغال بالكتابة التاريخية فئات متنوعة من المصريين، فنجد المؤرخين العساكر مثل الأمير بيبرس الدوادار، وهم مقاتلون من المماليك اتجهوا إلى تدوين التواريخ، ونجد المؤرخين "أولاد الناس" وهو المصطلح الذي كان يطلق على أبناء الأمراء المماليك، ومن أشهرهم ابن تغري بردي تلميذ المقريزي، وابن إياس المصري الذي عاصر وقائع الاحتلال العثماني لمصر، وهناك كذلك المؤرخون الموظفون من رجال الإدارة الذين اتجهوا إلى التأليف التاريخي، ثم المؤرخون المشايخ أو الفقهاء وهم الأكثر غلبة وظهورًا في الكتابة التاريخية العربية منذ الطبري في العصر العباسي الثاني حتى الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية وعصر محمد علي، وأخيرا المؤرخون الشعبيون ومثلهم الحاضر في ذهني ابن زنبل الرمال قارئ الطالع في الرمل الذي أرخ في نص أدبي بديع لاحتلال سليم لمصر ومقاومة طومان باي آخر سلاطين المماليك له.
وتوفى المقريزي بالقاهرة في حارة برجوان التي ولد بها، سنة 845 هجرية الموافقة لسنة 1442 ميلادية، وقد قارب على الثمانين من عمره الذي أفناه في الدرس والتأليف فيقول عنه أحد المؤرخين الذين عاشوا بعده وهو شمس الدين السخاوي:
"واشتغل كثيرًا وطاف على الشيوخ ولقي الكبار، وجالس الأئمة فأخذ عنهم... ونظر في عدة فنون، وشارك في الفضائل، وخط بخطه الكثير، وانتهى، وانتقى، وقال الشعر والنثر وأفاد... وبلغت مجلداته نحو المائة، وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلد كبار، وأن شيوخه بلغت ستمائة نفس... وكان حسن المذاكرة بالتاريخ... وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو، واطلاع على أقوال السلف، وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه، مع حسن الخلق وكرم العهد وكثرة التواضع، وعلو الهمة لمن يقصد...كل ذلك مع تبجيل الأكابر له، إما مداراة له خوفًا من قلمه، أو لحسن مذاكرته"...
لقد تتلمذ تقي الدين المقريزي على يد المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وتأثر بأفكاره ونظرياته في التاريخ والعمران البشرى، لكنه تفوق على أستاذه في تطبيق تلك النظريات على أحداث التاريخ، لقد ظهر نبوغ المقريزي كمؤرخ في مؤلفاته المتعددة والتي تراوحت بين الكتب الضخمة التي تتألف من عدة مجلدات، والرسائل الصغيرة التي لا تتجاوز بضع صفحات.
وأول مؤلفاته التي تنتمي إلى الكتب الطويلة كتاب "إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع"، كتاب في السيرة النبوية اعتمد فيه على الاقتباس من كتب السيرة التي وضعها سابقوه، وقد نسخه في مكة وفقًا لرواية تلميذه جمال الدين أبو المحاسن، وعلى الأر جح أنه ألف في هذه المرحلة أيضًا إحدى رسائله الصغيرة التي حاول أن يطبق فيها نظرية أستاذه ابن خلدون عن العصبية القبلية على التاريخ العربي والإسلامي، وتعرف هذه الرسالة باسم كتاب "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم"، وأثناء إقامته في مكة وضع المقريزي عدة مؤلفات صغيرة منها: "ضوء الساري في معرفة تميم الداري" و "التبر المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك"، و"وصف حضرموت العجيبة"، و"الإعلام بمن في أرض الحبشة من ملوك الإسلام".
أما مؤلفاته الكبيرة فأهمها على الإطلاق كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وكتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"؛ والكتاب الأول والذي اشتهر باسم خطط المقريزي قام فيه بدراسة مدينة القاهرة وضواحيها، بكل ما فيها من شوارع وحارات ودروب وأزقة ومنشآت دينية وتعليمية وتجارية، وقد تخللت الكتاب معلومات مهمة عن النظم السياسية والإدارية في مصر، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام.
أما كتاب السلوك والذي وضعه في أربعة أجزاء ضخمة صدر كل منها في ثلاثة مجلدات، فيعتبر الكتاب العمدة في التأريخ لدولتي الأيوبيين والمماليك منذ نشأة الدولة الأيوبية في منتصف القرن السادس الهجري حتى وفاة المقريزي في منتصف القرن التاسع الهجري، وقد ختم به مؤلفاته الكبرى عن تاريخ مصر في العصر الإسلامي؛ فقد سبقه عملان كبيران: أحدهما مفقود "عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط"، وقد تناول فيه تاريخ مصر في عصر الولاة، والثاني: "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا" والذي يؤرخ فيه للدولة الفاطمية في مصر.
أما رسائل المقريزي الصغيرة خاصة تلك التي ألفها في السنوات الأخيرة من حياته فهي متنوعة في موضوعاتها ما بين الكتابة في التاريخ والاقتصاد والفنون وعلم الحيوان والمعادن، حتى النحل والعسل الأبيض كتب عنه مؤلفًا صغيرًا بعنوان "نحل عبر النحل"، ومن بين تلك الرسائل رسالة صغيرة تعرف بكتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، ويعد من الكتب العربية القليلة التي اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمي دقيق؛ وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزي لغلو الأسعار والمجاعات التي أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى 808 هجرية، ثم يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التي كانت مصر تعيش في ظلها في أوائل القرن التاسع الهجري ويقترح الحلول العملية لها... ويحتاج هذا المؤلف الصغير في عدد صفحاته الكبير في قيمته إلى وقفه أخرى معه.
كانت حياة المقريزي في زمن مضطرب، شهد انتقال السلطة من سلاطين دولة المماليك البحرية من أسرة قلاوون إلى السلاطين الجراكسة، وعاش الأزمة الاقتصادية الكبرى في مطلع القرن التاسع الهجري، وتنقل في أرجاء دولة المماليك بين مصر والشام والحجاز، وخالط العلماء، وأنتج عشرات من المؤلفات، ضاع أغلبها للأسف، لكن ما وصلنا يضعه بلا جدال في مصاف المبرزين من صناع الحضارة العربية الإسلامية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة