في نظر سكّان الشرق الأوسط أو متابعي أحداثه عن كثب، كان العام 2015 سيّئاً للغاية، بسبب ما شهده من موت ودمار وتهجير
في نظر سكّان الشرق الأوسط أو متابعي أحداثه عن كثب، كان العام 2015 سيّئاً للغاية، بسبب ما شهده من موت ودمار وتهجير، وتطرّف عنيف. ومع تزايد سعر الرصاصات، هبط سعر النفط، أهمّ مورد لتمويل الحروب. ومع أنّ العام الماضي لم يشهد حروباً فعليّة بين الدول، بل تخلّلته جهود حثيثة بذلها قادة الأنظمة الكبرى لتجنّبها، من المؤسف أن يكون العالَم قد اختبر عدداً من الحروب الأهليّة، إذ وقعت الدول، واحدة تلو الأخرى، في شراك الفتنة الداخليّة، مع كلّ ما يتأتّى عن ذلك من تداعيات مريعة ترافق الحروب عادةً، من أعمال وحشيّة على الساحة المحلّية، وأسوأ من ذلك استغلال القوى الخارجيّة لهذه الدول بهدف اختبار أسلحتها الجديدة، بما يشمل، في الكثير من الأحيان، قصفاً جوّياً عنيفاً لأهداف عسكريّة مزعومة داخل المدن.
أمّا سبب بقاء الوضع على حاله، فيبقى موضوع نقاش. وفي هذا السياق، يتحدّث البعض عن سوء توزيع الموارد بين الدول الغنية بالنفط، وتلك التي تفتقر إليه، في حين يلفت البعض الآخر إلى التأثير المبكر للتغيّر المناخي، الذي يشمل مثلاً الأذى الذي لحق بقطاع الزراعة في الريف السوري، بنتيجة موجات جفاف متتالية طاولت البلاد منذ العام 2007. وعاد آخرون ليتحدثوا عن تواصل تأثيرات الاحتلال الأجنبي لأفغانستان، ومن ثمّ العراق، وعن دور هذا الاحتلال في بروز عدد من التنظيمات المتطرّفة، بدءاً بـ «طالبان»، ووصولاً إلى «القاعدة» و»داعش»، وهي تنظيمات تميّزت خصوصاً بقدرتها على الاستيلاء على بلدات ومدن كبرى والاحتفاظ بها، في سياق تصدّيها لقوّات عسكريّة ذات طابع تقليديّ أكبر.
لا شكّ في أنّ الجميع كان لهم دور في ذلك، إلى جانب الدور الذي لعبته عوامل يصعب إحصاؤها لكثرة عددها، ما صعّب التفكير في أيّ حلّ سهل يجعل هذا العام 2016 أقل عنفاً ممّا كان عليه العام 2015. وإذا تناولنا مستويات القمع الذي مارسه النظام أو عدد الناس الذين طلبوا اللجوء إلى أوروبا، قد تزداد الأمور سوءاً بالنظر إلى كلّ الضرر الذي لحق بالمدارس، والمستشفيات، والخدمات الاجتماعيّة، ناهيك عن الشعور العام الذي يتشارك فيه كثيرون بأنّه بكلّ بساطة لا مستقبل لهم في مسقط رأسهم.
وسط هذه الظروف الحالكة، ما هو أفضل ما يمكننا تأمّله، إذا فكّرنا بطريقة منطقية؟ ثمّة أمر واضح للعيان، يتمثّل في تدفق الأموال الداخلة إلى الوطن، التي يرسلها الأشخاص الذين حالفهم الحظ ووجدوا عملاً في أوروبا أو الخليج. ويكمن بصيص أمل أيضاً في احتمال تنفيذ خطط أشغال عامّة تُعتبَر ضروريّة لتحسين البنية التحتيّة المحلّية في دول كمصر والعراق. وقد تأتي المساعدة أيضاً من دول غير عربيّة على غرار تركيا، ولا سيّما إيران، بعد أن رُفعَت عنها العقوبات مؤخّراً.
غير أنّ كلّ ما سبق لن يجدي نفعاً ما دامت حالة شبه حرب أهلية تتواصل في عدد كبير من الدول العربيّة، ما ينشئ حاجة ماسّة إلى التحقيق في وضع الحرب الأهليّة بحدّ ذاتها وفي كيفيّة وضع حدّ لهذا النوع من الصراعات. اليوم، تبدو ثلاث حالات على صلة وثيقة بالعالم العربي بشكل خاص. فأوّلاً، ثمّة احتمال بأن يحقق أحد الأطراف فوزاً عسكرياً ضد خصومه، كأن يفوز نظام السيسي مثلاً في مواجهة «الإخوان المسلمين»، من دون أن يحقق فوزاً أيديولوجياً، فتستمرّ المقاومة التي لا يمكن كبحها إلا بطرق تؤدّي إلى مزيد من الصراعات. ثانياً، تُسجّل حالة شلل، كما في سورية، حيث يفيد الحل المنطقي بتقسيم البلاد إلى دوائر نفوذ سياسي وعسكري مختلفة. أمّا الاحتمال الثالث، الذي يتفرّع من الاحتمال الثاني، فيتحدّث عن تقسيم فعليّ للبلاد، كما حصل مثلاً في أيرلندا بعد الحرب العالمية الأولى، أو في الهند وباكستان بعد الحرب العالمية الثانية.
من المحزن ألا يوصل أي من الاحتمالات السابقة إلى استقرار للأوضاع على الأمد الطويل، لتبقى بالتالي آفاق العام 2016 في معظم أرجاء العالم العربي على حالها، أي شبيهة بما كانت عليه خلال العام 2015. وتشكّل الجزائر استثناء من ذلك، حيث أنّ الحربين الداخليتين السابقتين فيها، أوّلاً ضدّ المستعمر الفرنسي ومن ثمّ ضدّ «الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ» أحبطتا عزيمة الجزائريين إزاء جولة جديدة من سفك الدماء. وينضمّ إلى الجزائر كل من الأردن والمغرب، حيث أظهر الملك في كلّ من الدولتين ما يكفي من الحكمة لتجنّب امتداد نطاق الانقسامات الاجتماعيّة والإيديولوجيّة إلى بلاده.
وما يزيد الأمور سوءاً هو أنّ وجود ثغور في معظم الحدود البرّية يسمح لمجموعة متنوّعة من المهرّبين والمجرمين، ومثيري الشغب السياسي بالمرور بسهولة كبرى عبر شمال أفريقيا، بما يشمل شبه جزيرة سيناء، في حين أنّ غياب قوى خارجيّة ذات سيادة وحدود واضحة سيولّد بشكل شبه مؤكّد توتّراً خطيراً بين مصر، وفلسطينيّي قطاع غزّة، وإسرائيل، بالنظر إلى وجود حقول كبيرة من الغاز الطبيعي.
وأخيراً، وإن كان من الممكن، في عالم مثاليّ، إيجاد طريقة للتعامل مع مجموعة من هذه المشاكل باعتماد خطّة موحّدة تلقى دعماً دوليّاً، لن يكتفي الصراع بين إيران والمملكة العربيّة السعوديّة بمنع تنفيذ خطّة من هذا القبيل، إذ إنّ أولويّات أخرى – لا سيّما تركيز الولايات المتّحدة وأوروبا على هزيمة «داعش» أوّلاً – ستعترض الطريق.
في التاريخ الحديث، ليست أوّل مرّة تكون فيها شعوب الشرق الأوسط عرضة لتأثيرات مؤذية ومسبّبة للتقسيم، تمارسها عليها قوى خارجيّة أقوى منها. لكنّه لم يسبق للانقسامات الداخلية المؤذية – التي تستند إلى أسس دينية، وعرقيّة، وأيديولوجيّة – أن كانت بهذه القوّة داخل كلّ دولة، ناهيك عن أنّ النواقص في تركيبة الدول تَحُول دون اقتراح طرق للحدّ من انقسامات من هذا القبيل، ولا توفّر لشعوبها راحة وأمناً يتوقان إليهما إلى حد اليأس.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة