"سنوات السعادة الثورية" لدلال البزري.. حكاية نصف واقعية
تقول الكاتبة اللبنانية دلال البزري عن كتابها الجديد: إن "هذا الكتاب ليس عن الذاكرة، ولا عن الحنين، إنه حكاية نصف واقعية.. نصف متخيلة".
بكثير من التفاؤل التاريخي، الذي صاحب حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، اندفع الشباب العربي إلى العمل الحزبي والسياسي، خصوصًا في الحركات والأحزاب والتنظيمات اليسارية والقومية، ذات الطابع الثوري والتغييري، وعرفت تلك الفترة بالتوسع الهائل لما سيسمى "المد الشيوعي"، خاصة بعد الانتصارات التي حققتها ثورات عدة، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
كان العالم العربي يشهد حراكًا كبيرًا في هذا الاتجاه، خصوصًا مع الناصرية وخيارها "الاشتراكي" في مصر، واندلاع الثورة الجزائرية، إضافة إلى الانقلابات العسكرية في السودان وسوريا والعراق وليبيا.. واقترنت حركات الاستقلال والتحرر، بانتشار الأفكار الأيديولوجية التي ادعت أنها "قاطرة التاريخ"، وأنها هي طليعة التحديث، والحاملة للتنوير والتنمية و"محو آثار الاستعمار".
بعد هزيمة عام 1967، وانطلاق المقاومة الفلسطينية، كجواب على فشل "الأنظمة العربية" في تحرير فلسطين، سادت فكرة "الحرب الشعبية الطويلة الأمد"، المستمدة من التجربة الصينية والكوبية والفيتنامية، التي وجدت نموذجها العربي في الحرب الجزائرية، وهذه الفكرة تتلازم فيها "حرب التحرير" مع "معركة التغيير"، أي اشتراط تغيير الأنظمة وتطبيق الاشتراكية وإقامة الوحدة القومية، بالترادف مع هدف تحرير فلسطين.
بالطبع، تساوقت هذه الأفكار الكبيرة مع خطاب ثقافي "حداثوي" يتبنى "محاربة الرجعية" في مختلف تعبيراتها الاجتماعية والفكرية والسياسية.. وعلى قاعدة هذا الخطاب، هيمنت الأيديولوجيا اليسارية "التقدمية" على فضاء الحياة العامة ومظاهرها، فانضوت الأجيال الشابة في تلك الحركات والأحزاب والتيارات على نحو ساحق وشامل.
بهذا المعنى يمكن وصف جيل الستينيات بأنه جيل اليسار، جيل التفاؤل الثوري، الذي سيتبين لاحقًا كم كان تفاؤلًا ساذجًا، ومميتًا في أحيان كثيرة.
الباحثة والكاتبة اللبنانية دلال البزري، كانت في تلك حقبة من أبرز الشابات "المناضلات" في صفوف "منظمة العمل الشيوعي في لبنان"، وقد نشرت أخيرًا كتابها "سنوات السعادة الثورية" (دار التنوير، بيروت 2016)، وفيه استعادة روائية، إذا صح التعبير، للمرحلة الأولى من حياتها الحزبية وتجربتها النضالية (1969 – 1971)، التي سبقت اندلاع الحروب في لبنان.
وهي إذ تقول: "إن هذا الكتاب ليس عن الذاكرة، ولا عن الحنين، ولا هو مذكرات أو ذكريات أو شهادة تاريخية، أو سيرة ذاتية، ولا هو رواية، إنه حكاية نصف واقعية، نصف متخيلة"، إلا أن نواة الكتاب الصلبة تبقى هي الذكريات والوقائع التي عاشتها واختبرتها واختزنتها في سيرتها السياسية والحزبية، ولو أنها أعادت صوغها في نص لا يخلو من تحوير للأسماء، وتحرر من تقريرية الحوادث، كما لا يخلو من تأويل ذاتي للوقائع، وإسقاط لوعي الراهن على سرديات الماضي.
والمقصود على الأرجح بكلمة "سعادة" في عنوان الكتاب، هو توصيف فاعلية الوهم العقائدي في شحن النفس بالتفاؤل والاندفاع والحماسة في روح الشباب، الذي يظن أنه قابض على التاريخ ومتحكم بمجريات الحاضر، والمسيطر على احتمالات المستقبل وحتمياته، ذاك الوهم "الجميل" الذي لا شك أنه كان عصب ذاك الجيل وميزته الخطيرة.
وتعلل البزري دافعها إلى تدوين سنوات "سعادتها" الثورية، بأنها حكايات الذاكرة: "أعود إليها رفضًا لتلك المعارك التي نعيشها اليوم، الباعثة على احتراق أدمغتنا في غبارها الكثيف (...) الذاكرة لأقول أنه كانت لنا حكاية أخرى، ولسنا قادمين من العدم، وقد استنجدت بالمخيلة لأني أرغب بأن يكون هذا الكتاب جذابًا، ممتعًا، بعد أن يكون دربًا من دروب ذاكرتنا".
يمكن القول إن هذا الكتاب، هو رسم متواصل لمغامرة جيل من "الرفاق والرفيقات" في مقتبل أعماره، مندفع ببراءة تامة والإيمان غير المشروط، والحماسة البالغة في البذل والتضحية، والانغماس التام فيما سيسمى "العمل الثوري"، طابع الرومانسية الذي وسم ذاك الجيل وتوقه إلى ممارسة الحرية الاجتماعية، ستظهره البزري بحس من التعاطف الحقيقي والسخرية اللاذعة في آن معًا.
يكفي أن نطلع على عناوين الفصول لندرك العلامات الفارقة لتلك السنوات الفوارة: الاجتماع الحزبي الأول، حملة التبرعات للفلسطينيين في الروشة، الرفيق عارف و"المسألة اليهودية"، الرفيق عارف في ظلال جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، الرفيق غسان الشيعي الشيوعي.. إلخ.
إنها بيروت في ذروة لمعانها، شانزليزيه العرب، ملجأ المعارضين والثوريين، مطبعة الكتاب العربي، مقهى المثقفين، وكر جواسيس العالم، منبت الأحزاب العربية السرية، مقر المفكرين والرؤساء والسياسيين المنفيين، منبر الصحافة المشاكسة، ومنصة السجالات الأيديولوجية، والأهم أنها باتت ملجأ منظمة التحرير الفلسطينية ومنطلقها في العمل العسكري والسياسي والثقافي، الذي سيتحول وجودها إلى "دولة داخل الدولة"، وفي حضنها وحمايتها، ستنمو الحركات الثورية اليسارية العربية، من الأريتريين والصوماليين إلى حركة البوليساريو إلى الجيش الإيرلندي السري و"الألوية الحمراء" الإيطالية، وما لا يخطر على البال من تنظيمات وحركات وما يتبعها من انشقاقات ومجموعات "نضالية" كانت تتكاثر كالفطر.
في هذا المناخ، عاشت دلال البزري حياة حزبية وميدانية مفعمة بالوقائع والحوادث والتجارب، في "منظمة العمل الشيوعي"، بالتوازي مع معايشتها لحركة المجتمع اللبناني وأطوار التحديث الوافد على بيروت، الذي تمظهر في التحرر الاجتماعي والإقبال على أنماط جديدة في العيش والمعاشرة والعلاقات العاطفية (كان أيضًا زمن "الثورة الجنسية" التي عرفها الغرب).
كانت ستينيات السينما الجديدة والفلسفة الوجودية والهيبية والغيفارية و"الفدائيين"، تمامًا كما كانت زمن القراءة والصحافة والشعر الحديث والوعي النسوي.
ميزة "سنوات السعادة الثورية" هي هذه الكتابة الحرة والمتداعية والمغلفة بالحب، وهذا التوقير لبراءة الماضي، بلا قسوة ولا محاكمة ولا ندم، وهذه النبرة للاعتراف والكشف من دون تفضيح ولا تنصل، كأن البزري كانت تدون كل شيء، وعلى وجهها ضحكة طويلة، قهقهة نابعة من دهاء الذاكرة وضد الزمن.
aXA6IDMuMTM3LjE2OS41NiA= جزيرة ام اند امز