أن تعلن المعارضة السورية وفداً للمفاوضات تدرك سلفاً أنه لن يكون مقبولاً يعني أنها تبعث برسالة إلى روسيا. عنوانها أنها لم تستسلم بعد
أن تعلن المعارضة السورية وفداً للمفاوضات تدرك سلفاً أنه لن يكون مقبولاً يعني أنها تبعث برسالة إلى روسيا عنوانها أنها لم تستسلم بعد.
لن ترضخ للضغوط والمساومات بين موسكو وواشنطن. ولن تنتظر أن يسمي المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ممثليها إلى «جنيف 3».
ليس المقصود بخيارها المتشدد أن تطيح المفاوضات. فهي تريد أيضاً المساومة حيال تهديد الكرملين وخياراته وبدائله الجاهزة والمعلنة.
أي أن اختيارها هذه الأسماء ليس نهائياً.
فإذا تقدم الآخرون خطوة نحوها تقدمت هي نحوهم بتبديل في تشكيلتها.
إنها تخبئ أسماء أخرى. يعني أنها تحمل بيد وفداً متشدداً وباليد الأخرى وفداً معتدلاً.
لكنها لا يمكن في نهاية الأمر أن تتجاهل توافق الأميركيين والروس وبعض المعنيين الآخرين مباشرة ورغباتهم، خصوصاً في وجوب حضور «الاتحاد الديموقراطي الكردي» لما له من تمثيل على الأرض يكاد يوازي عملياً حضور الفصائل الإسلامية المعتدلة و «الجيش الحر».
إضافة إلى أن الكرملين والبيت الأبيض يراهنان على ذراعه العسكرية، «قوات حماية الشعب»، أداة رئيسية في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية من «داعش» إلى «جبهة النصرة».
فضلاً عن وجوب حضور «الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير» برئاسة قدري جميل، و «مجلس سورية الديموقراطي» برئاسة هيثم مناع.
والأخيران من رموز مؤتمري موسكو والقاهرة.
يستند «الائتلاف الوطني» وشركاؤه في مؤتمر الرياض في المساومة والمواجهة مع موسكو إلى «الأصدقاء». والواضح تماماً أمامه أن المعنيين بالأزمة السورية لا يتحركون في إطار قراءته للتسوية السياسية أو لبيان «جنيف 1». فهو لم يكن حاضراً لا في لقاءي فيينا وما خرجا به من قرارات، ولا في مجلس الأمن عندما أصدر بالإجماع القرار 2254.
القراءة الدولية للبيان هي الإطار ولا مناص من التحرك في هذا الإطار.
والواقع أن خيارات الائتلاف ضيقة جداً: إما التسوية السياسية التي يرسمها الرئيس فلاديمير بوتين بتفاهم ضمني مع نظيره الأميركي باراك أوباما، وإما الحل العسكري على الطريقة الروسية التي تتحرك على أساس لائحة واحدة للحركات الإرهابية، لائحتها هي فقط لا غير مهما صدر من اعتراضات ومناشدات من هنا وهناك لم تلق حتى الآن آذاناً صاغية!
خلاصة القول إن المعارضة لم تعد تملك باعاً سياسية طويلة يمكنها فرض أجندتها أو قراءتها لمسار الحل أو المرحلة الانتقالية وشكل الهيئة التي ستدير هذه المرحلة.
كل شيء رسمه الآخرون في الخارج ودعوها إلى المشاركة.
كذلك الأمر على الصعيد الميداني لم يعد مجال للرهان على خروج الروس من سورية بعدما منحهم النظام قواعد ثابتة ودائمة في البلاد.
وبالتالي بات الحديث عن خيار الحسم العسكري مستحيلاً وهو في الأصل قبل التدخل الروسي لم يكن أحد يتوقع مثل هذا الخيار، لا من جانب النظام ولا من جانب خصومه.
ليس هذا فحسب، فالفصائل المعتدلة التي تقاتل النظام تواجه اليوم الآلة الروسية. وتواجه أيضاً التنظيمات الإرهابية.
قد تجد نفسها غداً في مواجهة مع «الإدارة الذاتية» لمناطق الكرد وهؤلاء لديهم قوة عسكرية لا يستهان بها ستتعزز بوجود القاعدة الأميركية التي ستنشأ في شمال البلاد، في محافظة القامشلي.
فكيف يفاوض المعارضون ويدهم السياسية قصيرة والذراع العسكرية للآخرين أقوى؟
أما أن تهدد المعارضة بالتخلف عن الحضور إلى جنيف فتلك أمنية الرئيس بشار الأسد الذي لا تعنيه المفاوضات لا من قريب ولا من بعيد.
من دون أن يعني ذلك أن مستقبله بات مضموناً أكثر من أي وقت مضى بعدما أخذت روسيا على عاتقها إدارة مسرح العمليات.
واستعادت قواته بعض المعنويات. واطمأن أهل الساحل ومجموعات ومكونات من طوائف أخرى تمسكت بالنظام إلى أمنها ومصيرها. هذا ليس كل شيء.
فهو يدرك أن البيئة الشعبية التي وقفت معه تعاني من الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، وتراقب بنقمة قلةً من المحيطين تدير اقتصاد حرب وتراكم ثروتها على حساب الناس وقوتهم اليومي.
وهذه بلا شك ترى إلى فلاديمير بوتين «رئيساً». مثلما ترى إليه مكونات أخرى في الوسط السني وغيرها منقذاً لها من سطوة الإيرانيين وميليشياتهم، وسطوة الحركات المتشددة... وإن كانت لا تخفي غضبها من رأس النظام الذي أخرج البلاد من احتلال إلى احتلال. فضلاً عن القتل والتهجير والتدمير.
ويدرك الرئيس السوري أيضاً أن تفاهم الكبار وإطلاق يد روسيا في التسوية لن يمرا من دون ثمن وهذا مبعث قلق دائم له أين منه مخاوفه السابقة من المعارضة.
وسواء أجريت انتخابات أم لم تُجر فإن سيد الكرملين يبقى هو المرجع أو الناخب الأكبر.
وقد لا يخذل أهل النظام وليس الأميركيون وحدهم حين يحين الاستحقاق. وحتى إيران المرتابة قد تسير في ركب التخلي عنه إذا توافرت لها الضمانات المطلوبة.
فماذا يتغير إذا تولى القيادة رأس من أهل السنة وظلت إمرة الجيش لأهل الساحل العلوي مثلاً؟
لا تجري الريح بما تشتهي سفن المعارضة. فحتى عندما تتحدث عن إجراءات لبناء الثقة، عندما تطالب برفع الحصارات ووقف سياسة التجويع ورد البراميل المتفجرة وإطلاق الموقوفين ومنع سياسة التهجير وتغيير الديموغرافيا وتسهيل إيصال المساعدات ووقف البراميل... يرفع الروس وغيرهم بوجهها شعار رفض الشروط المسبقة.
كأن هذه المطالب لم تنص عليها ستة قرارات وقعها الكبار في مجلس الأمن!
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد.
موسكو تبدو مصممة على المضي في عقد «جنيف 3» بشروطها المسبقة هي.
فما لم يستجب «أهل مؤتمر الرياض» ويعيدوا النظر بأسماء وفدهم إلى المفاوضات والقبول بوفد مختلط ستدفع بوفد آخر اختارته ولم تعد أسماء أعضائه سراً.
لعلها تراهن على إحراجهم فإخراجهم. عندها تنفتح الطريق أمامها لمواصلة سياسة الأرض المحروقة.
وتتخلص من إحراجات اتهامها باستهداف الفصائل المعارضة بدل تركيز الحرب على تنظيمي «داعش» و «النصرة».
وتمضي قدماً في تسوية لا تتجاوز قيام حكومة موسعة بديلاً من الهيئة الحاكمة الكاملة الصلاحيات، تشرك فيها من تعده مطواعاً أو حليفاً.
ولعلها تراهن هنا على وهن «الائتلاف الوطني» وشركائه، مما يسهل ضرب صفوفه وشقها، ومغازلة بعض القوى العسكرية وطمأنتها لضرب الفصائل وزعزعة صفوفها المهتزة أصلاً. عندئذ لن يكون أمام المعترضين سوى اللحاق بركب القطار... أو إحالتهم إلى «لائحة قوى الإرهاب»!
أحد أكبر العوامل في مأساة المعارضة السورية أن التحولات الجذرية في المشهد الاستراتيجي الإقليمي هي جزء من تحولات كبرى على مستوى العلاقات الدولية والنظام الدولي قيد التشكيل.
وما دام أن الأزمة السورية تحولت باكراً عنصراً أساسياً في الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، فإن مآل تسويتها سيبقى بأيدي الكبار وتفاهماتهم وتبادل مصالحهم هنا وهناك. ولا يجدي «الائتلاف» أن يشعر بأن الأميركيين خذلوه.
إنه شعور كثيرين من أهل الإقليم الذين كانوا لعقود شركاء أساسيين للولايات المتحدة.
فليس سراً رهان هذه على إيران.
بل لعلها تعد لمقايضة أو تفاهم مع روسيا: لكم بلاد الشام ولنا الجمهورية الإسلامية!
لا يعود بعدها همٌّ ماذا يبقى للأسد وماذا يبقى لخصومه. مصير المعارضة السورية لا يعني روسيا لا من قريب ولا من بعيد ما دام الكرملين لا يعير اهتماماً أو وزناً لمعارضته هو في الداخل.
والأهم أن هذا المصير لم يعد ولم يكن أساساً الشغل الشاغل لواشنطن وشركائها الغربيين.
إنها الحرب على إرهاب بعثته «دولة الخلافة» مجدداً، فتجددت حركاته وتنظيماته ووسعت دائرته في كل القارات.
كأنها في سباق أو تنافس في القتل والأعمال الوحشية.
لم يعد مكان آمناً لا في الشرق ولا في الغرب.
ففي مقابل الحرب الدولية على «داعش» يشن الإرهاب حرباً دولية، وإن اختلفت الأهداف والظروف بين تنظيم وآخر.
أمام هذه المعطيات، لا يبقى أمام المعارضة السورية سوى تقديم مزيد من التنازلات.
ولن تعدم الديبلوماسية الدولية في إيجاد مخارج لإطلاق «جنيف 3» خلال يومين أو ثلاثة.
فماذا لو قدم «أهل مؤتمر الرياض» لائحة معتدلين»؟
وماذا لو ارتضت روسيا بممثلين من لائحتها أعضاء في الهيئة الاستشارية للوفد المفاوض؟
وماذا لو ترك الأمر للمبعوث الدولي؟
فهل يملك الصلاحية أو القدرة على الاختيار بدل أن يظل ينتظر الفرج من واشنطن وموسكو وهو يعلم أن عيونهما تنظر أبعد من بلاد الشام وهي تراقب الرئيس الصيني يجول في المنطقة!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة