يبدو أن إيران لا تستطيع متابعة سياستها ومصالحها الخارجية من دون الانخراط في أزمة أو حتى اختلاقها
يبدو أن إيران لا تستطيع متابعة سياستها ومصالحها الخارجية من دون الانخراط في أزمة أو حتى اختلاقها. ويبدو أنها أدمنت هذا النهج منذ ثورتها في العام 1979، التي أتت بنظام حكم متناقض بصفة أساسية مع نفسه، وإن كان يهيمن عليه رجال الدين أو الملالي، ومعانداً للتوقعات المتزايدة لشعبه، ومخاصماً أو متصارعاً مع بيئته الإقليمية والدولية. فما إن بدأت إرهاصات انفراج أزمتها الدولية، بسبب ملفها النووي ودعمها الإرهاب، حتى دخلت في أزمة أخرى على مستوى الإقليم.
ولا تتعلق الأزمة الحالية بقيام المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية والإسلامية بقطع العلاقات الديبلوماسية أو تخفيضها مع طهران وحسب، وإنما هي أكبر من ذلك وأعمق، وتتعلق بالتدخل الإيراني المباشر وغير المباشر في معظم دول المنطقة، وطموحاتها القومية «الفارسية»، بصرف النظر عن الغلاف الذي تضعه عليها، في الهيمنة الإقليمية واستغلالها، للمفارقة، فكرة «الفوضى الخلاقة» وغيرها من وسائل «حروب الجيل الخامس» لتحقيق ذلك.
والحقيقة أن السلوك الإيراني في إدارة الأزمة الحالية لم يفعل سوى أن برهن على أنه يصدر من نظام حكم متناقض تناقضاً جوهرياً، وأنه يستند إلى دلائل مفارِقة للواقع، والمنطق أحياناً. ولكن أي عاقل يلاحظ أنه ليس ثمة تغير في السياسة «العدوانية» أو «التوسعية» أو «الإمبريالية» التي تتابعها الجمهورية الإسلامية تجاه جوارها القريب المتمثل في دول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، وسائر أقطار العالم العربي عموماً.
فمنذ تفجر الأزمة الأخيرة بالتدخل الإيراني المخالف للقانون الدولي في شأن داخلي سعودي، يتعلق بإعدام المواطن السعودي نمر النمر، لضلوعه في أعمال إرهابية في المملكة، وما تبعه من اقتحام سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، ثم رد الرياض وعدد من الدول العربية والإسلامية بقطع العلاقات أو تخفيضها، تصدر عن أركان النظام الإيراني تصريحات ومواقف يُناقض بعضها بعضاً، بين التصعيد والتهدئة. وقد تزعّم اتجاه التصعيد تيار المتشددين الذي يتزعمه المرشد الأعلى وحرسه الثوري، فالمرشد توعد السعوديين بالانتقام الشديد بعد إعدام النمر، وأوحى لقواته المسلحة بالكشف عن ترسانتها الضخمة والمتضخمة من الصواريخ الباليستية التي تنشر مظلتها التهديدية على دول الشرق الأوسط كله، فضلاً عن حدود أوروبا القريبة. ثم جاء دور الجنرال محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري، في التصعيد والتهديد، مبرهناً انخراط بلاده في «حروب الجيل الخامس» ضد دول المنطقة، إذ كرّر تصريحاته بأنّ «حرسه الثوري» قام بتدريب نحو 200 ألف مقاتل من أبناء العراق وسورية ولبنان واليمن وباكستان وأفغانستان، تُضاف إلى شبكة التحالفات التي ترعاها بلاده في المنطقة، وتتكون من ميليشيات بل و «جيوش» محلية وحركات إرهابية وخلايا نائمة وجواسيس. وكان شر البلية الذي يُضحك هو اتهام المخابرات السعودية والإسرائيلية بإحراق السفارة!
أما اتجاه التهدئة، فقد قاده تيار «المعتدلين» الذين يمثلهم رئيس الجمهورية ووزير خارجيته. فقد دانت إدارة الرئيس حسن روحاني الاعتداء على ممثليتي السعودية في بلاده، وأقالت مسؤولين كبيرين حملتهما مسؤولية ما حدث، واعتقلت بعض المتورطين في الاعتداء، وأحالتهم على القضاء، مع التوصية بسرعة محاكمتهم «من أجل وضع نهاية حاسمة لكل الإساءات والأضرار التي لحقت بكرامة إيران وبالأمن الوطني». وفي مقاله المنشور في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية غداة الأزمة، أكّد وزير الخارجية جواد ظريف أنّ بلاده لا ترغب بتصعيد التوتر في المنطقة، ونفى الدعم الإيراني للإرهاب والتطرف والطائفية في المنطقة والعالم، وأثبتهما بحق «الضحية»، أي السعودية!
ورغم أنّ المتتبع للنظام السياسي الإيراني يعلم أنه ليس موحداً، وأنه يتنازعه تيارا المتشددين والمعتدلين، فقد أظهرت هذه الأزمة تناقضاً داخلياً في كل تيار، فالمرشد الذي أرغى وأزبد وهدد السعودية بالويل والثبور وعظائم الأمور، تذكر قبل أيام (20/1/2016) كيف أن صورة بلاده «غير الناصعة» ازدادت سوءاً بعد الهجوم على سفارة المملكة وقنصليتها، فدان الواقعة، كونها كانت «خطأ أضر بإيران والإسلام»! والمفارقة أنه طبقاً لما نشرته صحيفة «مشرق» الإيرانية، فإن وزير الاستخبارات السابق مساعد الرئيس لشؤون الأقليات علي يونسي، حذّر مسبقاً من مغبة اقتحام السفارة، ما يشير إلى أن هذا الاقتحام تم تداوله في دوائر صنع القرار قبل حدوثه، ويعزز شكوك العرب وغيرهم بأن الحادثة كانت مدبرة.
والأهم من ذلك أن مواقف كلا الطرفين، إصلاحيين كانوا أم متشددين، تستند إلى دلائل مفارقة للواقع. فتيار التصعيد يزعم أن بلاده لديها من المقدرات الشاملة ما يمكنها من تحقيق أهداف سياستها العدوانية التوسعية في موقف الصراع الحالي، فضلاً عن أن تلك المقدرات تجعلها تطمئن إلى أنها قادرة على الاستمرار فيها. والواقع أن إيران لا تستند إلى مقدرات اقتصادية أو عسكرية حقيقية تعينها على مواصلة التدخل والتغلغل في النظام العربي ووحداته، فضلاً عن الفوز في الأزمة الراهنة. فلا يستطيع الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد على الإيرادات النفطية بنسبة 80 في المئة تحمل كلفة الأزمة، لا سيما في ضوء انهيار أسعار النفط. فالركود يضرب الاقتصاد الإيراني منذ سنوات، ويتفاقم مع قلة الاستثمارات، ومعدل نموه أقل من المعدلات العالمية والإقليمية، ومستوى تضخمه من أعلى المستويات في المنطقة (13 إلى 15 في المئة). وتسجل إيران أيضاً أعلى معدلات للبطالة، ولا سيما بين الشباب (28.7 في المئة)، وتفاوتاً كبيراً في توزيع الدخول (بنسبة 47 في المئة). وتُعاني الحكومة الإيرانية كماً كبيراً من الديون بلغ 110 بلايين دولار، لا تستطيع معه الأموال المفرج عنها إثر الاتفاق النووي مع الغرب، والمقدّرة بنحو 50 بليوناً، أن تحل مشاكل الاقتصاد الإيراني الذي يتسم بدرجة تنافسية ضعيفة، وفقاً لتقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، ولا يتمتع بميزة نسبية في ما يتصل بسهولة ممارسة أنشطة الأعمال فيه، طبقاً لتقارير البنك الدولي، إضافة إلى أن الفساد يستشري فيه. فبحسب تقرير «مؤشر مدركات الفساد للعام 2014» الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، تُصنف إيران ضمن الدول ذات مستوى الفساد المرتفع جداً، وتأتي في المستوى الثامن الذي يضم مجموعة من أسوأ الدول فساداً في العالم، وتقبع في المركز الـ136 (من بين 175 دولة) على المؤشر المذكور.
ووفقاً لتقرير التوازن العسكري الذي يصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فإن القوات المسلحة الإيرانية التقليدية ذات قدرات محدودة، ولذلك فإن عقيدتها العسكرية دفاعية بالأساس. وتستند إيران أساساً في سياساتها التدخلية إلى عناصر غير نظامية، إذ تمتلك مقدرة كبيرة على شن حرب غير نظامية من خلال عمليات عسكرية منخفضة المستوى أو هجمات إرهابية وتخريبية، باستخدام قوات الحرس الثوري أو عملائه في الدول العربية التي توجد فيها أقليات شيعية أو جاليات إيرانية لتخويف جيرانها.
وأخيراً، فإن الوقائع تثبت مدى تهافت تصريحات تيار التهدئة. فمن يصدق أن إيران التي تصدّر عبر ميليشياتها الفتنة إلى أربع دول عربية على الأقل هي لبنان وسورية والعراق واليمن، فضلاً عن تدخلها باستخدام أدوات الجيل الخامس من الحروب في عددٍ آخر من الدول، ترغب بتهدئة التوتر في المنطقة؟ بيد أن الخيال وحده يمكن أن يتصور أن الجمهورية الإسلامية في الشرق الأوسط لم تُحضِّر من زمن عفريت الطائفية، وتنفخ في روح التمذهب الديني الذي لا يختلف عن روح الجاهلية «النتنة».
كان يمكن لإيران تحقيق نفوذ حقيقي في المنطقة بتبني نموذج تنموي أو تعليمي مبهر تصدره إلى دول المنطقة، عوضاً من تصدير الثورة والتطرف المذهبي، ولا شك في أن الشعب الإيراني يستحق ما هو أفضل من هذا النظام الذي يهدر ثرواته، ويورطه في أزمات ومشكلات تزيد وطأة معاناته بسبب الفقر والبطالة وتضاعف من عزلته. ربما كان الشعب الإيراني هو من يستحق أن نتعاطف معه في معاناته التي تتضاعف يوماً بعد يوم بسبب سياسة حكومته التي أدمنت ركوب رأسها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة