وإن لم يطل الربيع العربي كل الدول العربية، فإنه لم يتجاوزها دون أن يسقط عليها من هجيرة وفيحه إن فكريًا وإن وجدانيًا
خارطة العالم العربي لم ولن تعود كما كانت ما قبل الثورات، يستوي في ذلك الجغرافيا "القطرية المحدودة بحدود تقليدية دولية" والجغرافيا "الذهنية أو الفكرية والنفسية"، وإن لم يطل الربيع العربي كل الدول العربية، فإنه لم يتجاوزها دون أن يسقط عليها من هجيرة وفيحه إن فكريًا وإن وجدانيًا، تغيرت لغونة الإنسان العربي عما قبل الثورات، وتجافت مدركاته وانطباعاته عما كانت عليها قبل ذلك، تكاثف الحديث عن تفكيك ونهاية الجغرافيا العراقية والسورية مثلًا والحدود بينهما، والتي كانت من مخرجات سايس بيكو، في جهات أخرى من العالم العربي ثمة ما يشابه ذلك، في ليبيا في اليمن الجغرافيا كأرض كأنما هي تميد وتمور عن حالتها الأولى لحظة تشكل الدولة ما بعد الاستعمار، يتوازى أو يتوارى بموازات حركة جغرافيا الدولة حراك في جغرافيا اللاوعي العربي.
الإنسان العربي يدخل مرحلة الفراغ والفضاء اللامتناهي من شعور اللاهوية واللانتماء جراء تفكك فكرة الدولة أو العودة إلى عصر ما قبل الدولة، شعور العربي المنبعث مع تصدعات الثورة ليس هو الشعور التقليدي بتعرض وطنه لعدوان ودمار بفعل داخلي أو خارجي تقليدي، بل يتعدى الأمر ذلك إلى فوبيا وإرهاب أمض من ذلك بمسافات، حيث تنزل على روع الإنسان العربي شعور فارق بأنه لم يكن يدرج ويحيى في دولة حقيقية أصلًا، وأنه كان يعيش في شبه دولة أو دولة ظرفية مرحلية مخاضية لم تصل لمرحلة دولة، وما قصة الدولة إلا لحظة تشكل وانتقال.
الإنسان العربي في أسوأ حالاته الوجودية، وتضيق به الأرض لاكتشافه أنه دخل طور العدم، وذوبان الانتماء والهوية التي كانت تمده بها الأرض والوطن الذي انساح وأضحى تحت رحمة فيضانات التحولات الإقليمية، التي أصبحت مهيعة لصراع القوى العالمية الكبرى والصغرى التابعة لها.
الخوف من المستقبل وذوبان الماضي وهشاشة الحاضر الذي نشأ جراء سخونة الثورات ليس عاديًا ولا عابرًا، بل يحمل في تلافيفه حقائق ومخاوف مشروعه ومنطقية، في الدول التي انهدمت بفعل الثورات تحقق الخوف والهلع الوجودي والهوياتي بأكمله، دول كانت دول وها هي تعود كانتونات وإمارات متصارعة وأمراء حرب، واستبدلت الدولة الوطنية بالدولة الهوياتية القبيلة / الطائفة / القومية، ليس ذلك لأن حمى الثورات كانت عاتية، بل لأن الأصل عدم وجود دولة حقيقية، وأن الأصل هو حرون الهويات وتربصها بانتظار لحظة الانفجار الذي يعيدها إلى الصدارة واللادولة.
في الدول العربية التي لم تستدرجها الثورات شكلًا هي في الحقيقة تأثرت بتداعيات الثورات ضمنيًا ذهنيًا ووجدانيًا وإن بشكل ومسافة أقل.
تلك المشاعر العميقة في الجغرافيا الفكرية والنفسية للإنسان العربي والتي نتجت جراء تداعي الجغرافيا الحقيقية "الوطن" صنعت في اللاوعي العربي حالة من فقدان الثقة بالذات، والواقع كما الشعور بالعجز والخوف واليأس وفقدان البوصلة، وذلك ما يحتم استعادة الهوية ومراجعتها والدروج ناحية وصل الوعي العربي والإنسان العربي المقطوع عن بعده الهوياتي والحضاري والفكري الذي كان عبر أمداء متطاولة وليس نتيجةً للثورات العربية ذلك أن الثورات العربية تعبر عما يشابه القشة التي قصمت ظهر البعير،تهدم وتداعي الثقافة العربية والوعي العربي وكرامة وقيمة الإنسان العربي كان محصلة قرون من الظلمات التي أزاحته نحو الهامش.
( المختصر ) ثمة كثير من الباحثين والمؤرخين يصفون الحقبة العربية التي نحايثها لحظة فارقة وصادمة للوعي العربي لم يشهد لها مثيلًا بما تشتمله من تفكك الأوطان والهويات الكبرى، وهيمنة القوى الكبرى العالمية أو الإقليمية، وغير ذلك من انهيارات وانكسارات، والحقيقة برأيي أن هذا الكلام لا يتسق وغير مشارف للواقع، حيث يعزوا هؤلاء "الباحثون والمؤرخون" التراجع والانكسارات إلى الراهن "استبداد النخب السياسية الحاكمة" "الثورات" أو ما قبلها بعقود "الاستعمار" وتلك قراءة تمسك بالتاريخ من ذيله لا من رأسه، ومن الطبيعي أن تكون النتيجة غير صحيحة، حيث المقدمات غير صحيحه، ذلك أن ما نشهده ونحايثه من واقع عربي أعمق من أن ينسب لنوازل حديثه وطارئة.
ثمة سؤال هوياتي عريض يجعلنا نتواصل مع الحلقات المفقودة، والتي تكشف عمق مأزقنا الوجودي ( أين كان العالم العربي فكريًا وهوياتيًا ووجوديًا وحضاريًا قبل الثورات وقبل الاستعمار وقبل القرن العشرين؟ هل كان للأمة العربية وجود أصلًا؟ وهل كان العرب لقرون متطاولة يحكمون أنفسهم ويهيمنون على أوطانهم وثقافتهم وتاريخهم أم كانوا خارج معارج التاريخ؟
الذي أود الانتهاء إليه أننا نعيش مرحلة بداية حضارية وليس نهاية حضارية، فحسبنا ولادة الشعور بحتمية الوجود والحضور والانعتاق من السبات الطويل، لا يؤرقني كثيرًا أننا نعيش في أدنى دركات تاريخنا، فحسبي ولادة شعورنا بأننا أمة، وأننا أدركنا حاجتنا بضرورة التململ والموران من جديد، فكل شيء ينبعث في بداياته من ضعف ووهن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة