ولو أن أصحاب تلك الدعوات ـ على اختلاف اتجاهاتها ـ قد نأوا بأنفسهم عن الرغبة العارمة فى الشهرة والذيوع، والصخب والضجيج
حين كتب أفلاطون الإلهى ـ كما أسماه الشهرستانى فى الملل والنحل ـ على باب (الأكاديمية) ـ عبارته الشهيرة التى لا يزال دارسو الفلسفة يتذاكرونها؛ وهى قوله: (من لم يكن مرتاضا ـ أى دارسا للرياضيات ـ فلا يدخلن مدرستنا) فإنه لم يرد بذلك ـ كما يشهد تاريخ الفلسفة ـ أن يجعل من دراسة الفلسفة ضربا من «الكهانة» المغلقة الأبواب، أو من العلوم السرية المكتومة، أو ما يماثلها؛ بل أراد بذلك ـ أن على الراغبين فى خوض غمار فلسفته الشاهقة البنيان، العميقة الأركان، أن يعدوا لها العدة الفكرية الملائمة، ويتسلحوا لها بسوابق الرياضيات ـ بمعناها الأعم ـ وبدون ذلك تتعثر خطواتهم، لأنهم يخوضون محيطا هائلا من الاتساع والعمق، دون سابق إعداد أو استعداد، حيث لا يفضى ذلك إلا إلى حيرة على حيرة، ولا يسلم إلا إلى ضلال فوق ضلال!!
وأكبر الظن ـ إن لم يكن أكبر اليقين ـ أن أفلاطون لو عاش عصرنا هذا ـ بكل ما تصطخب فيه السموات المفتوحة ـ من وسائل الاتصال والمعلوماتية ـ المتسارعة والمتصارعة ليل نهار ـ لوجد من يسفه قولته تلك تسفيها، ويشبعها سخرية وازورارا، ولوجد من الزاعقين فى الفضائيات ـ التى تتلقفها الآذان، وتلتهمها الأعين دون بصيرة ولا روية: من يمطرها بقارص القول ـ دون رؤية، أو تدبر، أو تمحيص، متهما القولة وقائلها: بالكهانة حينا، وبالغلو فى تقدير فلسفته حينا، وبالتندر والسخرية حينا، أو بما هو أدنى من ذلك مما »تجود« به اللغة السوقية المبتذلة أحيانا أخرى!!
أردت بهذه المقدمة التى تضرب فى بجذورها فى عمق تاريخ الفكر الإنسانى أن تستعيد الأذهان تلك الموجات العارمة المماثلة والمشابهة من موجات التهجم العاتى على صروح التراث الإسلامي؛ سواء فى جانب الحديث الشريف ـ رواية ودراية، أو الفقه الإسلامى بمذاهبه واتجاهاته، أصولا وفروعا، ثم تصدير تلك الموجات العارمة إلى الأسماع والأبصار ـ التى تتلقفها ـ فى غير صبر ولا تصبر، ولا روية ولا ترو، ولا إعمال للملكة النقدية القادرة على التمحيص الدقيق، والتأمل العميق، حتى تتبين نصيب هذا التهجم المتسارع من الموضوعية والصدق والتحليل، وإذا بالجماهير الفضائية التى لا تطيق على ذلك صبرا ـ وقد أمست صيدا ثمينا: لأحكام متسرعة وأفكار مبتسرة، وإذا بالتراث ـ الحديثى والفقهى بأسره ـ دون تمييز بين المقطوع منه والمظنون، والمقبول منه والمرفوض، وقد صار محطا للهجوم الضارى الذى يدعو بعض مروجيه إلى إلغاء هذا التراث جملة وتفصيلا؛ ومحوه من ذاكرة الأمة محوا، وإذا بأصحاب هذا التراث ـ من أجلة العلماء ـ وقد نالهم ما نالهم من أبشع التهم، وأفظع النقائص؛ وهل هناك أبشع وأفظع من اتهام بعض هؤلاء المروجين لهؤلاء الأجلة بأنهم سبب البلاء الذى حاق بالأمة، ومصدر التخلف الذى أصابها، ومبعث التقهقر الحضارى الذى منيت به؟!
ولو أن أصحاب تلك الدعوات ـ على اختلاف اتجاهاتها ـ قد نأوا بأنفسهم عن الرغبة العارمة فى الشهرة والذيوع، والصخب والضجيج، والتلاسن المقذع الذى توفره لهم صيحات الرفض، وهياج الإنكار؛ فلربما انتهى الجميع إلى ضفاف يلتقى فيها الجميع على كلمة الحق، بعيدا عن »صراع الديكة« حيث لا غالب ولا مغلوب، وبمنأى عن لمعان الأضواء التى تتوه بها الحقائق، حيث تجتمع الأمة على كلمة سواء، تهتدى بها العقول والقلوب، وينمحى بها زيغ الأبصار وضلال البصائر.
إنه ليعز على المرء ويبعث فى قلبه الحسرة والأسى أن يؤول العقل الجمعى للأمة إلى هذا المصير البائس الذى يختلط فيه الحق بالباطل، والمقطوع بالمظنون، والصواب الصراح بالخطأ البواح؛ بينما يحفل تراثنا ـ الذى يود بعضها لو أنه دفن فى غياهب النسيان وصار نسيا منسيا: بعلم متين القواعد، رصين البنيان؛ يسمى (آداب البحث والمناظرة) تحفل فروعه الباسقات: بالتمييز الواضح بين المكابرة والمصادرة والمراء والجدال من جهة ـ وكلها أنواع تأباها حقيقة «العلم الحقيقي» ـ وبين أجناس أخرى من النقاش القويم الرصين: هى المعارضة والنقض ـ الإجمالى والتفصيلي؛ وفى كل منهما تفصيلات غابت عن الأذهان فى عصرنا هذا، وكلها أنواع تنتهى بالمناظرين إلى الحق أو تخوم الحقيقة؛ ذلك أن ثمة تفرقة دقيقة وحاسمة فى ثنايا هذا العلم وأعطافه بين »المعارضة« التى يكتفى فيها ببيان الخطأ فى الاستدلال فى الجانب المقابل، وبين «المناقضة» التى تضم إلى جانب ذلك: بيان صواب الرأي، وسداد الفكر؛ وإلى جانب ذلك كله يؤكد هذا العلم المدفون فى أعماق التراث على آداب شتى، ينبغى أن يتحلى بها أصحاب الآراء المتعارضة، منها: أن تتجنب أطراف الخلاف السخرية من الطرف المقابل، وأن يعمد كلا الطرفين إلى الاعتراف بالصواب حين يظهر له ـ حتى ولو لم يكن فى جانبه، وأن يتوجه بالانتقاد إلى «لباب» الرأى المقابل ـ لا إلى التعريض بشخصه، أو الانتقاص من قدره، أو اتهامه على غير بينة، وتحذر الطرفين جميعا من أن يتلقف كلاهما الرأى الآخر فى عجلة من الأمر؛ بل يلزم على كل طرف: الحرص على فهم الرأى المعارض كحرصه على بيان رأى نفسه تماما، وأن ينتظر كل منهما صاحبه حتى يفرغ من إبداء رأيه فى غير عجلة ولا تسرع، وأن لا يسارع فى تناوله إياه بالانتقاد، وأن لا يتسقط هفواته، فضلا عن تحقير شأنه، وتصغير قدره، والزراية برأيه.
فيا ليت قومى يعلمون!!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة