فى ذلك اليوم.. وصل الطفل إلى سن السادسة، واجتمعت الأسرة لتحتفل بعيد ميلاده.. وكان الجميع ينتظر وصول الأب
فى ذلك اليوم.. وصل الطفل إلى سن السادسة، واجتمعت الأسرة لتحتفل بعيد ميلاده.. وكان الجميع ينتظر وصول الأب متطلعين بشغف إلى الهدية التى سيأتى بها.
دخل الأب مصطحبا فى يده هدية الغلام: جارية بيضاء اشتراها له من سوق العبيد بعد أن خطفها النخاسون وهى طفلة من أهلها فى القوقاز.
قد تبدو هذه قصة مألوفة لو كانت تجرى فى مصر فى عصر المماليك، لكنها تصير قصة غريبة عندما نعرف أنها حدثت عند انتهاء القرن التاسع عشر، وعندما نعرف أن هذا الغلام كان رائدا من رواد فكرنا الحديث وهو الأستاذ إسماعيل مظهر.
تذكرت هذه القصة التى رواها إسماعيل مظهر فى سيرته الذاتية «تباريح الشباب» التى يحكى فيها جانبا من صباه. المكان قصر غريب يعيش فيه مع أمه وأبيه وجواريه وجيش من العبيد والأغوات. والزمان أيضا غريب حيث يطلق مظهر العنان لتأملاته عن عالم فى سبيله إلى الأفول وآخر جديد قد بدأ فى التشكل.
تذكرت ذلك بمناسبة مرور قرن وربع على مولده حيث ولد فى 19 يناير 1891 ومات فى 3 فبراير 1962.
وكاتبنا بالرغم من نشأته فى أسرة ثرية من أصول تركية إلا أنه وضع نصب عينيه مستقبل مصر.. ولما لا؟ وقد كان فى مقتبل شبابه يذهب مع طه حسين والعقاد وهيكل والرافعى إلى مقر الجريدة بعد الظهر ليستمع معهم إلى دروس خاله أحمد لطفى السيد الفيلسوف الذى كان يقتدى بسقراط: يحاور الشباب ولا يكتب كتباً.ت
كان مظهر محباً للاستطلاع وذكاؤه متقدا .. وكان يقدم على ما يشرع فيه بعاطفة جياشة.. فهو يتحدث عن المسار الفكرى الذى اختاره لنفسه قائلا: «فى عام 1911 كنت مكبا على الفلسفة القديمة، أنهل من موارد العرب بأقصى ما تصل إليه استطاعتى، وحين ذاك وقعت فى يدى نسخة من كتاب شبلى شميل «فلسفة النشوء والارتقاء»، فأحدثت قراءتها فى ذهنى من الانقلاب والأثر ما تعجز الكلمات واللغة عن التعبير عنه أو وصفه».
وهكذا عكف إسماعيل مظهر على دراسة مذهب التطور لمدة عشر سنوات ترجم خلالها كتاب «أصل الأنواع» لداروين. ولا شك أنه أمر بالغ الدلالة أن يختار نظرة علمية تقع فى مرمى النيران، جلبت عليه تهم الكفر والمروق ذ لم تكن العلمانية تهمة فى تلك الأيام ذ ولكنه لا يلتفت لمن هاجموه ويمضى فى طريقه. بل إنه جعل من نظرية التطور منظورا للعالم وفلسفة للحضارة فى كتابه «ملقى السبيل».
ولقد تأثر بالنزعة الوضعية عند أوجست كونت وآمن بأن البشرية قد دخلت فى عصر العلم وأنه لا خيار لنا فى قبول العصر الجديد أو فى رفضه. فالتاريخ لا يستأذن الأمم وإنما يفرض عليها مراحله، وإن كان هناك دخل لإرادة الشعوب فهو أن تهيىء نفسها للتعامل مع العصر الجديد، فأحداث العالم، بحسب تعبيره، تلفنا لفاً وتسوقنا سوقا إلى هدف مخبوء فى صدر المستقبل.
أهاله رسوخ الثقافة المتخلفة فى ربوع الوطن. فيحكى لنا فى تباريح الشباب أنه ذهب مع أبيه الثرى ليبيع قصرا من قصوره يطل على نيل المنيل لأحد التجار اليونانيين، فصاغ كاتب المحكمة الشرعية عقد البيع كالآتى: «وبمجلس هذا العقد وبحضور فلان وعلان، باع وأسقط وتنزل الجناب العالى والكوكب المنير المتلالى، حايز رتب المفاخر والمعالى الأمير عبدالله بن إسماعيل، إلى الهالك ابن الهالك أبوستولى ساليدس».
ويعلق الفتى إسماعيل قائلا : «تملكنا إحساس بأن هذا العالم الصغير الذى يبيح هذه الفوارق بين خلق الله، ويوزع رقاع الأرض والسماء على الناس بمطلق اختياره ، ليس لنا فيه مأرب وليس لنا فيه مجال».
كان شوقه جارفا لنهضة أمته ، ولهذا لم يكن يكف عن العمل والاجتهاد فى مجالات عدة، فهو يترجم كتبا تنشر الثقافة العلمية الحديثة، ويؤلف القواميس والموسوعات التى تُعد البنية التحتية اللازمة للأبحاث العلمية، ويكتب فى التاريخ والفلسفة والنقد الأدبي، ويمارس النضال السياسى فيؤسس حزب الفلاح ويطمح إلى الاشتراكية، وينخرط فى الدعوات التنويرية بآراء تتسم بالراديكالية مبتعدا عن النغمة السائدة عن التدرج والاعتدال والوسطية.
فعلى سبيل المثال فى كتابه «المرأة فى عصر الديمقراطية»، ينحاز لقضية تحرر المرأة وينتقد من يربطون هذا التحرر، على غرار جان جاك روسو، بحاجات الرجل. ويطالب بحقها فى الاستقلال الكامل من خلال التعليم والعمل. ينتقد المفهوم السائد المحافظ عن تحرر المرأة فى ثقافتنا العربية فينقل لنا شكواها ناطقا بلسانها فيقول: يطلبون منى أن أتعلم وأظل فى البيت لكى أقدم لأولادى الحنان والرعاية، وحينما أنظر إلى المرأة الغربية أجدها تترك البيت وتخرج إلى العمل، ورغم ذلك فأولادها أذكى من أولادى وأنظف من أولادى وأفضل خلقا من أولادي.
فلماذا تحبسونني؟
إذا تساءلنا اليوم لماذا نتمسك إلى هذه الدرجة بالمساواة والحرية ونناضل من أجل تحقيقها، فذلك لأن مفكرين كبارا مثل اسماعيل مظهر أثروا ثقافتنا المعاصرة، وجعلوا رسالتهم فى الحياة نشر الفكر الحر والدفاع عن العدل والمساواة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة