لكن مطلع القرن الخامس عشر الميلادي التاسع الهجري، ذلك الزمن الذي عرف واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخ مصر في العصر الوسيط..
ألف شيخنا تقي الدين أحمد بن علي المقريزي عددًا من الكتب الصغيرة أو الرسائل التي تناول في كل واحد منها موضوعًا أو قضية متتبعًا لأصولها التاريخية ومحللًا لها، ومن بين هذه المؤلفات الصغيرة نقف أمام عملين مهمين بينهما قرابة عشر سنوات يكملان بعضهما، ويقدمان معًا مشروعًا لعلاج الأزمة الاقتصادية والنقدية في مصر في مطلع القرن التاسع الهجري.
منذ أقدم العصور عرف البشر الأزمات الاقتصادية، لكن هذه الأزمات قبل العصر الرأسمالي كانت تأخذ طابعًا مختلفًا عن أزمات عصرنا الحاضر، كانت تتركز في نقص السلع والمنتجات الناجم عادة عن كوارث طبيعية وبيئية.
وقد قام المؤرخون قديمًا برصد الأزمات وتقديم تفسيرات لها، كانت تلك التفسيرات لا تخرج عادة عن الغضب الإلهي على البشر بسبب خطاياهم، وكان أسلوب معالجة الحكام للأزمات في أغلب الأحيان لا يخرج عن هذا المفهوم، حيث يتركز في اتخاذ إجراءات صارمة في مواجهة كل خروج عن النواهي والمحرمات الدينية.
لكن مطلع القرن الخامس عشر الميلادي التاسع الهجري، ذلك الزمن الذي عرف واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخ مصر في العصر الوسيط، شهد مؤرخًا من نوع مختلف ذهب لتحليل الأزمة في محاولة للتوصل إلى أسبابها وتقديم حلول لها من خلال دراسة الواقع المعاش؛ إنه تقي الدين المقريزي، كتب الرجل رسالة صغيرة تحمل عنوان: "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، ناقش فيها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أمسكت بخناق المجتمع المصري في عصره، وبدأت في عام 796 هجرية واستمرت حتى الزمن الذي ألف فيه كتابه أوائل سنة 808 هجرية، وهذه الرسالة الصغيرة من الكتب العربية القليلة التي اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمي دقيق.
وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزي لغلو الأسعار والمجاعات التي أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى 808 هجرية، وإذا كان الرجل قد اعتمد في سرد مجاعات العصور القديمة على روايات تغلفها الأساطير، فإنه عندما تحدث عن المجاعات والغلوات في مصر منذ عصر الولاة اعتمد على روايات المؤرخين المعاصرين لتلك المجاعات أو القريبين من عصرها، فجاء حديثه دقيقًا إلى حد كبير، وبعد أن يستعرض تاريخ المجاعات يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التي كانت مصر تعيش في ظلها في أوائل القرن التاسع الهجري ويقترح الحلول العملية لها.
يشير المقريزي في مفتتح كتابه إلى سبب تأليفه لهذا الكتاب فيقول: "فإنه لما طال أمد هذا البلاء المبين، وحل فيه بالخلق أنواع البلاء المهين، ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن فيما مضى مثلها ولا مر زمن شبهها، وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها، ولا يكون أبدًا عن الخلق انفصالها، وذلك أنهم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد واقفون، ومن روح الله آيسون، ومن تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا أنه كما مر من الغلوات، وانقضى من السنوات المهلكات".
ثم يستطرد شارحًا منهجه في التأليف، قائلًا: "فعزمت على ذكر الأسباب التي نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادى بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع، وأختم القول بذكر ما يزيل هذا الداء، ويرفع البلاء، مع الإلماع بطرف من أسعار هذا الزمن، وإيراد نبذ مما غبر من الغلاء والمحن، راجيا من الله سبحانه أن يوفق من أسند إليه أمور عباده، وملكه مقاليد أرضه وبلاده، إلى ما فيه سداد الأمور، وصلاح الجمهور، إذ الأمور كلها، قلها وجلها، إذا عرفت أسبابها سهل على الخبير صلاحها".
وفى محاولته لتشخيص سبب الأزمة الاقتصادية ربط المقريزي بين الفساد السياسي من ناحية، والاستغلال الاقتصادي المتمثل في المبالغة في الضرائب على الأطيان الزراعية من ناحية ثانية، وانهيار النظام النقدي من ناحية ثالثة؛ حيث يقول المقريزي:
"وسبب ذلك كله ثلاثة أشياء لا رابع لها:
السبب الأول وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من العمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال.
السبب الثاني غلاء الأطيان وذلك أن قومًا ترقوا في خدم الأمراء يتولفوا إليهم بما جبوا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال، فتعدوا إلى الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا في مقادير الأجر، فثقلت لذلك متحصلات مواليهم من الأمراء، فاتخذوا ذلك يدا يمنون بها إليهم، ونعمة يعدونها إذا شاءوا عليهم؛ فجعلوا الزيادة دينهم كل عام حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث.
السبب الثالث رواج الفلوس النحاس فإنه لم تزل سنة الله في خلقه وعادته المستمرة منذ كانت الخليقة إلى أن حدثت هذه الحوادث، وارتكبت هذه العظائم أن النقود التي تكون أثمانا للمبيعات وقيما للأعمال إنما هي الذهب والفضة فقط، لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدا في قديم الزمان ولا حديثه نقدا غيرهما، فأصبح للناس ثلاثة نقود أكثرها الفلوس وهو النقد الرابح الغالب والثاني الذهب وهو أقل وجدانًا من الفلوس، وأما الفضة فقلت حتى بطل التعامل بها لعزتها، وعظم رواج الفلوس وكثرت كثرة بالغة حتى صارت المبيعات وقيم الأعمال كلها تنسب إلى الفلوس خاصة".
وقد كان المقريزي في هذه الرسالة الصغيرة سابقًا لعلماء الاقتصاد الأوروبيين بمائة سنة في عرض وشرح النظرية القائلة بأن "النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق"، وقد توصل المقريزي في هذه الرسالة أيضا إلى نظرية دورية الأزمات الاقتصادية، كما أدرك معنى التضخم وقدم شرحًا وافيًا له ولأثره على مختلف طبقات المجتمع، التي تناولها بشرح وافٍ، ويختتم المقريزي رسالته بمشروع للإصلاح النقدي رأى فيه مخرجًا من الأزمة الاقتصادية.
وقد نشر هذا الكتاب محققًا كاملًا للمرة الأولى في عام 1940 اثنان من الأكاديميين المتميزين، هما الدكتور محمد مصطفى زيادة الذي يعد من أبرز محققي المقريزي، وزميله ومجايله الدكتور جمال الدين الشيال، وقدما لتحقيقهما بدراسة مهمة عن المخطوطة وعرفا بقيمتها وأهميتها في سياقها التاريخي، وفضل مؤلفها في تطور المعرفة في ذلك العصر.
وبعد سنوات قليلة يعود المقريزي للتأليف في النظام النقدي وإصلاحه؛ فمن المؤلفات الصغيرة للمؤرخ تقي الدين المقريزي رسالة من بين رسائله تحمل عنوان "شذور العقود في ذكر النقود"، وهي رسالة كتبها بناء على طلب مسؤول كبير في الدولة كما يذكر في مقدمته للرسالة: ".. وبعد فقد برز الأمر المطاع زاده الله علوًا وتمكينا بتحرير نبذة لطيفة في أمور النقود الإسلامية فبادرت إلى امتثال ما خرج الأمر العالي أعلاه الله به من ذلك والله أسأل التوفيق منه".
وقد وضع هذه الرسالة التي تأخذ شكل التقرير في زمن السلطان المؤيد شيخ، بين شهر صفر سنة 818 وشهر ربيع الأول سنة 819 هجرية؛ والهدف من الرسالة التأريخ للسكة أو النقود الإسلامية، ليخرج من هذه الدراسة بمقترحات لحل الأزمة النقدية التي كانت تعيش مصر في ظلها لسنوات طويلة منذ سقوط الدولة الفاطمية، تلك الأزمة التي يرصدها المقريزي بقوله: "فلما زالت الدولة الفاطمية بدخول الغز من الشام إلى مصر على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة سبع وستين وخمسمائة، قررت السكة بالقاهرة باسم أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله، وباسم السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، صاحب بلاد الشام، فنقش اسم كل منهما في وجه، وفيها عمت البلوى والضائقة بأهل مصر، لأن الذهب والفضة خرجا منها، وما رجعا، وعدما فلم يوجدا، ولهج الناس بما عمهم من ذلك، فصار إذا قيل دينار أحمر فكأنما ذكرت حرمة الغيور له، وإن حصل في يده فكأنما جاءت بشارة الجنة له".
وقد تطورت الأمور بعد ذلك وجرت عدة محاولات للإصلاح النقدي لم يقدر لأي منها أن تستمر طويلًا، فعندما تولى صلاح الدين السلطنة سعى لإجراء إصلاح نقدي بضرب دنانير ودراهم خالصة، لكن الملك الكامل الأيوبي ضرب دنانير ثلثيها من الفضة وثلثها من النحاس أوقف التعامل بالدراهم الناصرية، وقد ضرب الظاهر بيبرس دراهم جديدة زاد فيها نسبة الفضة إلى 70% في محاولة منه لإصلاح النقد، لكن الأمور صارت إلى الفساد مرة أخرى سنة 781 هـ في أواخر زمن دولة المماليك البحرية، وعندما تولى برقوق السلطنة وأسس دولة المماليك الجراكسة، قام الأمير محمود بن علي الأستادار بإبطال ضرب الدراهم الفضية وأكثر من ضرب الفلوس النحاسية حتى سادت وأصبحت النقد الرسمي للبلاد، وعندما تولى السلطان المؤيد شيخ السلطنة قام بمحاولته الإصلاحية الجديدة التي أخرجت البلاد من أزمتها النقدية، وهي المحاولة التي طورها فيما بعد السلطان الأشرف برسباي.
وقد عرض المقريزي في دراسته لتطور النظام النقدي في مصر آراءه التي سبق أن قدمها في رسالته المهمة "إغاثة الأمة بكشف الغمة"؛ فأكد المقريزي في "شذور العقود بذكر النقود" ما انتهى إليه من قبل في إغاثة الأمة من خطأ وخطر الاعتماد على العملات النحاسية أو الفلوس بمصطلح ذلك العصر في النظام النقدي، وانتهى إلى ضرورة العودة إلى اعتماد النقود المضروبة من الذهب أو الفضة كنقود لها قوة الإبراء، ووجه خطابه إلى السلطان المؤيد شيخ مقترحًا عليه مشروعًا لإصلاح النظام النقدي يقوم على اعتبار الدراهم المؤيدية التي ضربها السلطان العملة الشرعية الوحيدة التي تقاس عليها المعاملات، فيقول: "اللهم ألهم مولانا السلطان بحسن السفارة الكريمة، أن يأنف من أن يكون نقده مضافا إلى غيره، وأن يجعل نقده تضاف إليه النقود، كما جعل الله اسمه الشريف يضاف إليه اسم كل من رعيته، بل كل ملك من مجاوري ملكه، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله، وذلك أن يبرز المرسوم الشريف لموالينا قضاة القضاة، أعز الله بهم الدين أن يلزموا شهود الحوانيت، بأن لا يكتب سجل أرض ولا إجارة دار ولا صدق امرأة ولا مسطور بدين، إلا ويكون المبلغ من الدراهم المؤيدية، ويبرز أيضا للناظر في الحسبة الشريفة، أن يلزم الدلالين بسائر الأسواق، ألا ينادوا على شيء من المبيعات سواء قل أو جل إلا بالدراهم المؤيدية، ويبرز أيضا إلى الدواوين السلطانية ودواوين الأمراء والأوقاف ألا يكتبوا في دفاتر حساباتهم متحصلًا ولا مصروفًا إلا من الدراهم المؤيدية، فتصير الدراهم المؤيدية ينسب إليها ويضاف لها ما عداها من النقود كما جعل الله مولانا السلطان عز نصره يضاف إليه ويتشرف به كل من انتسب أو انتمى إليه".
وقد نشر هذا النص المهم الذي ألفه تقي الدين المقريزي عدة مرات منذ عام 1797م، لكن الطبعة التي صدرت بتحقيق الدكتور محمد عبد الستار عثمان سنة 1990، هي الأهم والأكمل من بين كل طبعات الكتاب، ذلك لأنه رجع فيها إلى نسخة مخطوطة لم يعتمد عليها من سبقوه في التحقيق وهي نسخة نسخت وتم تصحيحها على يد المؤلف نفسه، تقي الدين المقريزي ويرجع تاريخها إلى شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثمانمئة، أي قبل وفاته بأربع سنوات، ولا تقتصر أهمية طبعة الدكتور محمد عبد الستار عثمان على اعتماده على نسخة معتمدة من المؤلف بذل جهدًا واضحًا في مضاهاة النسخ المخطوطة التي توافرت تحت يده ومراجعة تحقيقه على تحقيقات من سبقوه، فضلًا عن أنه قدم للتحقيق بدراسة وافية للنص ولما حول النص، وأضاف للتحقيق ملحقًا شارحًا للمصطلحات الواردة في النص، فوضع بين أيدينا عملًا علميًا فريدًا ومتميزًا.
لقد كان المقريزي مؤرخًا لعصر وكان في نفس الوقت علامة على عصر، ومن خلال رسالتيه الصغيرتين نتعرف على لحظة فارقة في تاريخ مصر، من خلال عناصر الأزمة نكتشف ملامح مخاض لم يكتمل لانتقال مصر من عصر اقتصادي إلى عصر جديد، كما نتبين مشروعًا للإصلاح في تقريرين أولهما لمحاربة الفساد، والثاني للإصلاح النقدي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة