أتساءل أحياناً عن السياسة الأمنية العربية الرافضة للإصلاح الجوهري والمؤمنة بالحلول التي تقوم على سجن المعارضين والتخلص من المختلفين
في غالبية الدول العربية تدير السلطات السياسية بضعف واضح عملية التعامل مع العقبات التي يفرضها الواقع كالزيادة السكانية المتنامية، وتكدس الناس في المدن، وانتشار التعليم ومشكلات الاقتصاد والبطالة، ثم البنى التحتية والتعليمية والصحية وأزمة الإسكان. لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات تراجع العدالة وتفكك أيديولوجية النظام الأخلاقية (سواء كانت دينية أم قومية أم خليطاً) والتي تستند إليها لتبرير دورها وحكمها. يقع هذا في ظل تآكل دور الأجهزة التشريعية والقضائية بل والتعليمية العربية. فمع استثناءات عربية قليلة، تغيب الرؤية الإستراتيجية وأصبحت السلطات السياسية في أفضل الحالات تعبر عن نفسها عبر ردود فعل تؤكد ندرة التخطيط والانهماك في المفاجآت. إن مأزق العرب الراهن يتلخص في عدم القدرة على إنتاج المعادلة التي تنمي وتطور وتفعل وتعدل في الوقت نفسه.
وتبقى الكلمة العليا في المرحلة الراهنة للدولة الأمنية الخائفة من الخارج والداخل، لكنها في واقع الحال أصبحت أكثر خوفاً من المواطن والشارع ومن الناس ومن الكلمات ومن شبح التعبير والميادين ومن فئات وطوائف وقبائل وجماعات. ففي بعض الدول العربية لا يتم تعيين خريج في كثير من المهن إلا بعد مراجعة أمنية تبحث في المعتقدات والتقارير. تلك الحالة الأمنية هي ذاتها التي تتدخل في صفقات الاقتصاد وقلما تلتفت بفعالية إلى التنمية والبطالة. الدولة الأمنية تعيش دوماً في ظل مؤامرة تستهدف النيل من الوحدة، لكنها لا تمعن النظر بدورها حيث يجب، في تفكيك مشروع الدولة.
التاريخ مدرسة، ففي التاريخ الروسي ثورة عام ١٩٠٥، التي هزت النظام وأوشكت على إسقاطه وغيرت من بعض بناه، لكن تلك الثورة لم تنجح في تغيير السياسة الروسية كما لم تفتح الباب لإصلاح النظام الأرستقراطي الذي كان شديد الانغماس بنفسه، بل استنتج النظام بأن عدوه الأول هو الإصلاح انطلاقاً من قناعته بعدم ضرورة الإصلاح بعد أن هزم القوى الثورية في ١٩٠٥. إن تصدي النظام الروسي القديم بعد ثورة ١٩٠٥ لحركة الإصلاح وللرؤى الديموقراطية التي تسعى للتغيير الهادئ كان المعضلة التي أنتجت ثورة بلشفية كبيرة بحجم الاتحاد السوفياتي في العام ١٩١٧.
أتساءل أحياناً عن السياسة الأمنية العربية الرافضة للإصلاح الجوهري والمؤمنة بالحلول التي تقوم على سجن المعارضين والتخلص من المختلفين. هذه السياسة هي التي تدفع الشعوب مرة ثانية كما دفعتها من قبل إلى الثورة أو التطرف، وكأنها تريد من الناس أن تتطرف مما يبرر حرباً مستمرة على إرهاب يدفع إليه غياب المساحة وضعف التنمية وشدة البطالة وانتفاء التداول السياسي وحدة القمع. هذه لعبة مدمرة، لأنها سوف تنتج مع الوقت قوى ثورية وراديكالية تأخذ العرب نحو ثورات أكثر دموية وحسماً في تحقيق نتائجها.
يمكن تفهم الأسباب التي تجعل الحكومات تخشى من الإصلاح الذي قد يسقط النظام في نهاية الطريق، لكن من جهة أخرى إن غياب الإصلاح والمشاركة والأحزاب والضمانات والنموذج السياسي التوافقي والديموقراطي سيفتح الباب للنموذج الثوري. لقد حصل هذا بنسبة كبيرة مع الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ وذلك عندما فشل الشاه في فهم طبيعة التغيرات التي تعم مجتمعه، فتواجه نظامه مع الإصلاح ووقف ضد آفاقه، فانتهى بالثورة والجمهورية الإسلامية.
العرب بين نماذج متصارعة. في كل الحالات التغيير قادم، وفي كل الحالات لن يبقى الوضع الراهن كما هو، فهناك قوى سياسية تزداد جذرية وستزداد تنظيماً ووضوحاً، منها الحقوقية ومنها الإسلامية. هذه القوى ستترك أكبر الأثر على النظام العربي في السنوات المقبلة. نموذج الإصلاح هو الأفضل نظرياً، لكنه غير ممكن بلا مساومات وتوافقات وتسويات تفضي بنا إلى تجربة شبيهة بالتركية أو ما دون التركية من حيث ديموقراطيتها ومرونتها النسبية. ولكن فشل الإصلاح سيفضي بنا إلى ثورات أكثر عنفاً وراديكالية. ويمثل تنظيم «الدولة الإسلامية» بنسخته «الداعشية» مجرد شكل أولي لما هو قادم في الإقليم في ظل غياب التسويات والتنمية والحقوق. أما النموذج الثالث القائم أمامنا فهو الدولة الفاشلة التي تفقد السيطرة على سيادتها وأراضيها واحتكارها للسلاح. بين هذه النماذج يتحرك الوضع العربي.
من علامات ما هو قادم في الحالة العربية: تراجع مكانة مؤسسات عدة في الدولة العربية. على سبيل المثال هناك تراجع كبير في مؤسسة القضاء والمحاكم الدستورية على الأخص في المشهد العربي. هناك في العالم الواسع نمطان من القضاء. القضاء الذي يراه الناس عادلاً في مجالسهم الخاصة قبل العامة. إنه القضاء الذي يقنع الجميع بأن دوره الأساسي هو ممارسة العدل بين كل الفئات والجماعات والأفراد. لكن هناك من جهة أخرى نوع آخر من القضاء الذي ينظر إليه المجتمع في قرارة تفكيره وفي مجالسه الخاصة بصفته الحامي والضامن للامتيازات. القضاء الذي يتحول مع الوقت وبنسب متفاوتة، كما يقع في العالم العربي، إلى حماية الامتيازات سيفقد القدرة على ممارسة العدل. وهذا بدوره سيضعف النظام السياسي، خصوصاً إذا اقترن بتراجع في دور المؤسسة التشريعية والحريات. إن بعض الدراسات الجديدة حول حالة العدل والقضاء في الدول العربية، وهي في جلها بالإنكليزية، تشير إلى تراجع مكانة المؤسسة القضائية العربية وبخاصة دور المحاكم الدستورية بالمقارنة مع ما كانت عليه في نفس الأنظمة قبل عقد من الزمان. هناك مؤشرات يجب التوقف عندها لفهم مدى تفكك النظام العربي.
لن تستطيع السفينة العربية تغيير مسارها وإغلاق منافذ الغرق من دون إصلاحات جوهرية. هذه الإصلاحات التنموية ليست ترفاً، بل ضرورة ومسألة حياة أو موت للعالم العربي. من دون إنتاج المعادلة التي تنمي وتطور سياسياً واقتصادياً وإنسانياً ستتجمع غيوم قاتمة تكون عواصف جديدة وموجات احتجاجية حادة. حتى اللحظة، ومع استثناءات قليلة، تتناقض إعلانات الأنظمة مع واقع الحال، وتختلف الخطابات الرسمية، بسبب غياب مناخ الحرية، عما يقوله الناس في مجالسهم الخاصة حيث الحرية الحقيقية.
**ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة