في الولايات المتحدة أصبح هناك قبول ضمني بقيام العم سام بتسجيل المكالمات الهاتفية ومراقبة أماكن العبادة من أجل مواجهة الإرهابيين.
هناك عبارة شهيرة للشخصية التاريخية الأمريكية بنجامين فرانكلين تقول: "أولئك الذين يضحون بالكثير من الحرية من أجل قليل من الأمن لا يستحقون أيا منهما".
لو طبقنا هذه العبارة حرفيا في وقتنا الحالي لربما وجدنا أن كثيرا من الشعوب تخرج من دائرة الاستحقاق عند فرانكلين. ينطبق هذا الكلام علي الشعوب المتقدمة كما ينطبق على دول العالم الثالث وفي القلب منها العالم العربي ولكن بدرجات مختلفة. هذا علي الأقل ما يؤكده التقرير الصادر أمس عن منظمة (هيومان رايتس ووتش) في نيويورك ، حيث أشار التقرير الضخم في أكثر من ستمائة صفحة حول أوضاع حقوق الإنسان في نحو تسعين دولة إلي ما يصفه بـ "سياسات الخوف".
فكما ذكر رئيس المنظمة كينيث روس فإن "الخوف من الهجمات الإرهابية وتدفق اللاجئين يدفع الحكومات الغربية للتراجع في إجراءات حماية حقوق الإنسان، بما يهدد حقوق الجميع، دون دليل واضح علي أن ذلك يساعد في حماية الناس العاديين".
غير أن التعامل مع هذا الأمر يجب أن يتسم بقدر أكبر من الواقعية، فهناك بدون شك تهديدات كبيرة تتطلب إجراءات غير عادية. ونحن الآن نخلع أحذيتنا في المطارات ونمضي نحو ساعتين في علميات التفتيش دون أن نتذمر، لإدراكنا أنه ثمن بسيط مقابل حمايتنا من انفجار قنبلة علي ظهر الطائرة.
وفي الولايات المتحدة أصبح هناك قبول ضمني بقيام العم سام بتسجيل المكالمات الهاتفية ومراقبة أماكن العبادة (المساجد غالبا) من أجل مواجهة الإرهابيين المحتملين.
لكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير في دول أخري لا توجد فيها القيود الدستورية والقانونية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وحتي إن وجدت فإنها قلما تحترم.
لكن الظاهرة الجديدة ربما تكون في أن ما يقع من انتهاكات يحظى غالبا بتأييد نسبة كبيرة من المواطنين أنفسهم كما هو الحال في مصر الآن، حيث يعتقد الكثيرون أن الفوضى التي تعرضت لها البلاد خلال السنوات الخمسة الماضية بعد ثورة يناير كانت سببا في انعدام الأمن وإمكانية سقوط الدولة ذاتها. وقد انسحب ذلك تلقائيا ـ ليس علي الموقف من يناير فقط ـ ولكن أيضا علي كل من ارتبطوا بها، بحيث أصبحنا نرى بعض الناس في الشارع تتهم الشرطة بالليونة في مواجهتهم وتطالب بإجراءات أكثر عنفا. وقد سمعت عن سيدة ممن يمكن أن ينزعجن لمقتل فأر أو قطة أنها قالت مرة تعليقا علي مظاهرات في إحدى الأحياء الشعبية المصرية: ولماذا لا يقصفونهم بالطائرات؟!
هذه حالة تحتاج في اعتقادي إلي الكثير من التحليل النفسي، لكنها توضح أيضا عدم إدراك هؤلاء لطبيعة المشكلة القائمة وبالتالي فهم كيفية الخروج منها.
فهناك خلط لدي الكثيرين بين مفهوم الدولة القوية والدولة العنيفة، بحيث يتصورون أن لجوء أجهزة الدولة الأمنية لاستخدام القوة المبالغ فيها هو الطريقة الوحيدة لعودة الاستقرار حتي لو علي حساب الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. فالمهم هو الاطمئنان إلي عدم سقوط الدولة أو انهيار مؤسساتها كما حدث في بعض الدول المجاورة. وبما أنهم يتهمون يناير ومؤيديها بالتسبب فيما أصاب البلاد خلال السنوات الخمسة الماضية، فإنهم لا يبالون باستخدام أي إجراءات ضدهم، فهم بالنسبة لهم "نشتاء حكوكيون" ، إن لم يكونوا عملاء مأجورين. وتأكيدا علي ذلك فإن الأبواق الإعلامية في مصر كثيرا ما تردد عبارة مغلوطة تم تحريفها عمدا علي لسان رئيس الوزراء البريطاني بأنه لا يمكن الحديث عن هذه الحقوق والحريات عندما يتهدد الأمن القومي.
لكن ما يفوت هؤلاء أن الدول التي انهارت في المنطقة من سوريا إلي العراق وليبيا لم تكن تدلّل هؤلاء "الحكوكيين"، وهي لم تسقط لأنها احترمت مبادئ الديمقراطية والحريات، بل إنها لجأت لنفس الأساليب العنيفة التي يطالبون بها الآن في إخماد المعارضين. بينما العكس صحيح تماما في الدول "القوية" الراسخة في العالم كله. فأمريكا لم تلجأ لاعتقال ثلاثة ملايين مسلم بعد هجمات سبتمبر. كذلك فإن فرنسا وبريطانيا والدول الأوروبية عموما حتي وإن تراجعت التزاماتها الصارمة ببعض المعايير المرتبطة بالحريات فإنها لم تلجأ للأساليب العنيفة علي نطاق واسع.
والحقيقة أن مصر تواجه تحديات أمنية وتهديدات إرهابية لا يمكن التقليل منها، وهي تحتاج أحيانا إلي استخدام القوة في مواجهتها. ومن المفهوم كذلك أنه في مثل هذه الظروف غير الطبيعية فإن الناس تتوقع بعض الإجراءات الاستثنائية التي ربما تكون غير مقبولة في الظروف العادية. لكن ما يجب أن ينتبه إليه الجميع هو أن المبالغة في استخدام القوة، وصولا إلي اعتبارها الوسيلة الوحيدة في مواجهة تلك التهديدات، يمثل في ذاته الخطر الأكبر لأنه يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. فالقوة يجب أن تكون من أدوات السياسة وليست بديلا عنها، كما أن تماسك المجتمع هو الضمانة الوحيدة لنجاح الدولة في مواجهة التهديدات المحيطة بها. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق في ظل حالة الاستنفار العنيفة السائدة حاليا والتي أدت إلي المزيد من الاستقطاب الحاد داخل المجتمع المصري، وسيادة المعادلة الصفرية بين تياراته المختلفة بما لا يُطمئن علي قدرة الدولة علي مواجهة هذه التحديات في أقصر وقت بحيث تعود حركة الاستثمار والسياحة إلي ما كانت عليه.
الخروج من هذا المأزق يحتم أن تبادر أجهزة الدولة إلي نزع فتيل التوتر القابل للانفجار بمزيد من الحوار المجتمعي المفتوح، وعدم اللجوء إلي القوة والعنف إلا في حالة التهديد الإرهابي الحقيقي، مع وقف الشحن الإعلامي الدائم المصحوب بأساليب الحشد "العكاشية"، فالناس في حاجة لالتقاط الأنفاس.
باختصار.. نحن نحتاج بشدة لعودة الدولة "القوية" في مصر، لذلك ينبغي الحذَر من أكبر عقبة تحول دون ذلك الهدف وهي استخدام أساليب الدولة الأمنية "العنيفة".
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة