كيف نفهم لغز «الإرهاب»، وندرك أهدافه؟ كيف نفسر اندفاعه الانتحارى ضد العالم، وعواصم كبرى، مثل باريس وبروكسل وجاكرتا والقاهرة
كيف نفهم لغز «الإرهاب»، وندرك أهدافه؟ كيف نفسر اندفاعه الانتحارى ضد العالم، وعواصم كبرى، مثل باريس وبروكسل وجاكرتا والقاهرة وإسطنبول وغيرها. عواصم جميلة، تتجمد فيها حياة الناس وحركتهم، وتتحول السياسات العقلانية الداخلية لبعض هذه العواصم، إلى «فاشية» فى تعاطيها مع إرثها فى التعددية.
لا يُعقل أن يكون الهدف هو إقامة «الخلافة الإسلامية». ولا يصدق أحد، ولو كان مجنونا، هذه الفرية الكبرى. هذا حلم غير قابل للتحقق فى هذا العصر، فى عالمنا الإسلامى وفى غيره من العوالم. إنه عصر الدول ثابتة الحدود وحق تقرير المصير، وعلى من يريد أن يقيم «الخلافة» أن يكون جاهزا لغزو الكرة الأرضية كلها، وبناء إمبراطوريته، على طريقة إمبراطوريات روما وفارس والصين والمغول.. إلخ. ولما كان الإسلام كدين من شأن المسلمين جميعا، فمن الخطل بل والجريمة أن يُنسب هذا النموذج الموهوم إلى الإسلام.
لغز الإرهاب، ونموذجه الساطع «داعش».. ما زال معلقا فى الهواء.. وعابرا للحدود والقارات، والحرب ضده مستمرة، وكما يقول ساسة غربيون، «يمكن أن تستمر لأجيال».. إذا هى حرب جيدة!! فلماذا لا تستمر؟.. هناك إجماع عالمى ضد «داعش»، ورغم ذلك فهو يتمدد، ويضرب هنا وهناك.. والمواطن البسيط فى شوارع ومقاهى مدن العالم، يحاول تفكيك طلاسم حكاية محاربة «داعش» من قبل كل دول العالم الكبرى.
دارس التاريخ، يعرف عِبره ودروسه، لكن التاريخ نفسه، لا يخبرنا بما يتعين علينا القيام به، ونستحضر هنا، قصة حرب الثلاثين عاما التى جرت فى أوروبا فى الفترة من 1618 إلى 1648.
بين الكاثوليك والبروتستانت، وخسرت ألمانيا وحدها نصف سكانها فى مذابح هذه الحرب، التى لم تكن مجرد حرب دينية، وإنما كانت فى حقيقتها صراعا جيوسياسيا، من أجل الهيمنة والنفوذ، وانخرطت فيها دول وملكيات وأمراء ونبلاء وقوى كبرى «السويد وفرنسا والدانمارك وغيرها»، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وجغرافية، فرنسا الكاثوليكية دعمت هولندا البروتستانتية، والفاتيكان حامى حمى الكثلكة وعنوانها، دعَم أمراء ألمان بروتستانت.. وهكذا.. ويبدو اليوم، أن التاريخ يعيد نفسه، لكن بشكل تراجيدى، والمحصلة إطالة أمد عذاب ومعاناة الناس فى المنطقة.
***
انظر كيف صمت العالم، وصمتنا كعرب، لأكثر من عام على (خلافة) الإرهاب الوحشى فى الموصل، وفى بقاع أخرى فى سوريا والعراق، وعلى مساحة من الأرض أكبر من مساحة بريطانيا. وقيل وقتها «إن المهم هو ألا يتمدد «داعش»، وقال يومها، رئيس وزراء فرنسا: «لا أستطيع أن أمنع شابا فرنسيا، قرر أن يذهب إلى سوريا لقتال الديكتاتورية»، وقال إعلامى خليجى كبير ونجم تلفزيونى فى آن «لننسَ «داعش»، ونركز جهدنا على النظام السورى»، وهو نفسه القائل، بأن هناك «قاعدة» معتدل، و«قاعدة» إرهابى.
إذا.. اللعب مع «ثعابين» معتدلة جيد أيضا!!
هكذا نصطاد الرأى العام ونضلله.. وهكذا نُعطى ــ مثلا ــ على غموض السياسة التركية حيال «داعش»، و«النصرة»، وحيال عصابات مماثلة تتلحف برداء الإسلام.. وحيال تهريب النفط «الداعشى»، وتسهيل عمليات انتقال «الجهاديين» من كل بقاع الأرض.
ومثلما هناك «فوضى خلاقة»، هناك أيضا «غموض بنَاء» أو «خلاق» فى السياسات القطرية والإقليمية والدولية. كتسليح ما سمى بالربيع العربى السلمى، وكفتح صنبور اللجوء والهجرة إلى أوروبا عبر البوابة التركية، وتربية وسقاية الإرهاب، و«اللعب» مع وحشيته، طالما هو يضرب فى أراضى الغير.. إلخ.
اللعب مع الثعابين، ما زال مستمرا رغم أن رائحة هذه اللعبة الخبيثة والكريهة فاحت وملأت الأجواء، لكن الرهانات والحسابات السود، والاختراقات، ما زالت تترى، وربما تزداد وتيرتها فى القادم من الشهور.
الحاجة ماسة لتفكيك لغز «محاربة» «داعش» وإخوانه.. الكل يعلن محاربته لهذا التنظيم، الكل المتناقض فى أهدافه وسياساته وتحالفاته، يقول إنه يضرب أو سيضرب «داعش»، لكن المحصلة تشير إلى أن هذا التنظيم يزداد انفلاتا ووحشية وتمددا، ويزداد الغموض «البناء أو الخلاق»، الذى يحيط بالسياسات الإقليمية والدولية تجاه هذا التنظيم، هل هذا الغموض، هو محض ارتباك، أم أنه يقع فى دائرة «الحاجة إلى بقاء هذا التنظيم المتوحش، المتقاطع مع أهداف وسياسات ميكيافيلية»؟
***
تكاثرت الكتب والمؤلفات والمقالات عن «داعش».. فى الشرق وفى الغرب، وصارت المنطقة العربية مسرحا للاستثمار فى الإرهاب، ومسرحا لعمليات كبرى يدير فيها، مقاتلون متجولون شئون كتل سكانية كبيرة.. سمح العالم لـ«داعش» بالتقاط أنفاسها، والتحصن فى مكامن آمنة، والسيطرة على حقول نفط ومخازن أسلحة وتجنيد أجيال جديدة من الانتحاريين وخبراء التكنولوجيا، وتوفير ملاذات ومنابر ومواقع تبيح إلغاء الآخر، وتوسع القبور لمجزرة جوالة فى عواصم العالم.
إجماع عالمى غير مسبوق ضد «داعش»، ومع ذلك تتوسع قدراته على القتل والإيذاء.. كيف يمكن تفسير هذا اللغز؟ هل يمكن القول بأن هذا الإجماع الدولى، هو إجماع كاذب؟ أم نكتفى بترديد قول آخر، أقل تشاؤما، وهو «أن الحرب ضد «داعش» مستمرة، وربما تستمر لأجيال».
من أجل ذلك، فإن استمرار الحرب هو المطلوب.. هذه حرب جيدة.. وكفى!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة