وتأتى خطورة ذلك ، فيما شاهدناه ، من حداثة كل شىء، فمعظم النواب حديثو العهد بالخبرة البرلمانية ، والحياة السياسية
نحمد الله أننا قد تخلصنا من دستور الاخوان، الذى أُعد ونوقش وصُنع فى منتصف الليل حتى الفجر من يوم الجمعة الموافق 30 نوفمبر 2012 ، وقُدِم للمعزول فى صباح اليوم التالى فى مسرحية فكاهية ، ثم طرح على الشعب فى استفتاء وإعلان النتيجة فى 25 ديسمبر 2012 ، ولم يمكث عدة شهور ، حيث قامت ثورة 30 يونيو 2013 ضد النظام الإخوانى بعد أن تمكن من الاستيلاء على السلطة بالبلطجة والتهديد ، فيما كشفت عنه تحقيقات قضية النيابة العامة ، بتزوير الانتخابات الرئاسية عام 2012 !! وقد أزيح الستار عن حظر النشر وكشف الاسرار بعد أربع سنوات !!
ونحمد الله كثيراً على نجاح الثورة ، والاطاحة بحكم الاخوان ، وإطلاق الاعلان الدستورى فى 8 يوليو 2013 ، ثم تكليف لجنة العشرة لاعداد مشروع دستور جديد ، ثم عرضه على لجنة الخمسين ، ثم طرحه فى استفتاء عام والعمل به منذ 18 يناير 2014!! وما ان بدأ العمل بالدستور الجديد ، إلا وتذكر الناس ما كان يجرى من مناقشات فى أروقة اجتماعات لجنة الخمسين ، وكيف كانت الاصوات العالية متصارعة ، والاتجاهات متصادمة ، ثم كيف كانت محاولة « التوافق « بين كل الاتجاهات حتى تخرج من الصدام وتتفادى الفشل فى وضع دستور للبلاد ، ولهذا فلقد بلغت نصوص مواد الدستور 247 مادة بالتمام والكمال ، ليكون الدستور الوحيد الاكثر عدداً فى مواده على مدى تاريخ مصر طولاً وعرضاً .. لكن ذلك كان حتماً لتخطى المرحلة ، ولاصدار دستور جديد للبلاد .
والناس فى الاستفتاء كان عليها إما أن تأخذ مواد الدستور جملة واحدة ، فتقبله كله أو ترفضه كله وكان القبول ضرورياً نتاجاً للمرحلة ولحتمية ولضرورة وجود دستور للبلاد ، متى كانت معظم نصوصه صالحه ، وسرعان ما لبث أن أفرز الدستور فى مجال التطبيق عدة ملاحظات واضحة .. نتاجاً طبيعياً لكثرة مواده وحداثتها ، كشف عنها حال الائتلافات .. ونتائج الانتخابات وما أفرزه مجلس النواب .. ما من شأنه أن يثير الندم لدى واضعى الدستور .. خاصة ما بدا واضحاً بصدور قوانين مباشرة الحقوق السياسية وقانون تقسيم الدوائر وقانون مجلس النواب .. واجراء الانتخابات وتشكيل مجلس النواب وبدء جلساته كل ذلك كشف عن العورات .
ولعل أهم ما يوجب «الندم» ما أفرزته نصوص الدستور من هجر الأخذ بنظام المجلسين ، وقيام برلمان من مجلس واحد ، أو غرفة واحدة ، وما بشرت به من نظام الانتخاب ، مع غيبة الحياة الحزبية رغم تكاثر عدد الاحزاب ، وبلوغ عدد اعضاء المجلس 596 عضواً وهو أكبر عدد للنواب على مر تاريخ الحياة البرلمانية فى مصر منذ عام 1824 حتى برلمان الاخوان ومع كثرة العدد تقل الفائدة المرجوة من النقاش !!
والذى يدعو للندم ، أن الاتجاه فى تطوير الدساتير يكشف عن زيادة عدد الدول التى تأخذ بنظام الغرفتين ، لما يقدمه ذلك النظام من مزايا عديدة أهمها تحسين صناعة التشريع ، وزيادة فاعلية الرقابة البرلمانية ، وكبح جماح غرفة واحدة عندما تتجه إلى التسلط أو الاستبداد، فضلاً عن تنوع الخبراء وإختلاف الشروط والأحكام فى كل مجلس من المجلسين ، ومنذ قديم كان لدينا مجلس النواب ومجلس الشيوخ فى ظل دستور 1923 أى منذ قرن من الزمان ، ثم فى دستور 30 الذى أكدت مناقشاته أن نظام مجلس أو مجلسين ، أمر مفروغ منه أى لم يعد المبدأ قابلاً للنقاش أو التردد ، ثم عند العودة الى دستور 23 عاد البرلمان بمجلسيه «الشيوخ والنواب» .. وبعد سقوط النظام الملكى وقيام الحزب الواحد .. والمجلس الواحد ، واستمرار الحال حتى عام 1980 بزغت فكرة المجلسين فى بداية عهدها .. ثم صارت قريبة من المعنى المقصود بالتعديلات الدستورية عامى 2005 ، 2007 ، لكن فاجأتنا لجنة الخمسين بكل أسف بعودة نظام المجلس الواحد .. وزيادة عدد الاعضاء .. وقلة الاحزاب السياسية .. ونظام الانتخاب .. وما كشفت عنه المناقشات فى أولى جلسات البرلمان .. كل هذا قد يشعر معه واضعو الدستور بالندم على ما فات !!
كذلك كان الاتجاه العام ، فى إعداد ومناقشة نصوص الدستور ، الانفعال وردود الافعال عما كان لسنوات ، حول تعسف السلطة أو تسلطها ، ولم تكن ردود الافعال فى معظمها حكيمة أو موضوعية ، وإنما كانت جامحة شاردة ، وهو ما وصف من باب اللياقة وفرط الادب بأنه وضع بحسن نية ، وهو وصف ناعم ومهذب ، وقد بدا ذلك منذ تحديد سلطات البرلمان تجاه السلطة التنفيذية، وعند مناقشة برنامج الحكومة بالموافقة أو بالرفض .. وكيفية اختيار رئيس الوزراء ، والزام الحكومة بحد أدنى من ميزانية الدولة للخدمات ، وإصدار لائحة مجلس النواب «بقانون» حتى ولو كان المجلس هو الذى يعدها ، وحل المجلس عند التصادم بين المجلس والحكومة .. أو المجلس ورئيس الدولة .
وتأتى خطورة ذلك ، فيما شاهدناه ، من حداثة كل شىء، فمعظم النواب حديثو العهد بالخبرة البرلمانية ، والحياة السياسية ، مع غيبة الاحزاب الفاعلة بمقاعد مؤثرة، ولا يجمع المستقلون فكرا أو ائتلافا واحدا ليكون مؤثراً ، وقد بدا غياب الاعضاء ملحوظاً منذ الجلسات الأولى حتى تجاوز الغياب أكثر من خمسة اعضاء المجلس عند مناقشة القرارات بقوانين خلال غيبة البرلمان ، ولا نعلم ما اذا كانت النصوص الدستورية وأحكام القانون قد طبقت فعلاً أما مازالت حبراً على ورق بشأن تفرغ الاعضاء جميعاً لمهام العضوية، وحظر التعامل فى أموال الدولة، ومنع تضارب المصالح، وحضور الجلسات .. وكيفية التصويت .. وكيفية ممارسة التشريع وصور الرقابة البرلمانية .
ولأن السلطة التشريعية فى البلاد ، هى صاحبة السيادة ، ومصدر كل السلطات ، فإن تشكيل السلطة التشريعية ، وكيفية اختيارها ، ونظام الانتخاب ، وسلطاتها فى الدستور، كل ذلك كان ولابد أن يكون أمراً محكماً .. بالنظر الى الظروف القائمة .. سواء كانت السياسية .. والحزبية .. والاجتماعية والاقتصادية فى البلاد ، لذلك كان دوماً يصاحب الدستور صدور قوانين مباشرة الحياة السياسية ونظام الانتخاب .. وهو ما حدث عندنا ، لكن النصوص ذاتها .. والشروط والاحكام كانت تحكمها اتجاهات متضادة وردود أفعال متباينة .. ومواقف عنترية .. ومصادمات كثيرة، حتى لو خرجت «بتوافق» ، لكن ذلك كله كان على حساب المصلحة القومية أو المصلحة العليا للبلاد ، وتحقق بذلك أمر واحد ، أنه قد صار لدينا دستور جديد للبلاد .. يحمل نصوصاً جديدة لأول مرة .. مهما يكن تقييمها، أو نتائج ممارستها .
ولعل ما أفرزه نظام الانتخاب .. مع ما كشف عنه اداء النواب بالجلسات كان خير شاهد .. بدءاً من اداء القسم .. تشكيل اللجان المؤقتة .. ومناقشة القرارات بقوانين والخروج عن هيئة الأدب ، كل ذلك لم يلق قبولاً حسناً لدى الرأى العام ، سواء فى أثناء سير العملية الانتخابية .. أو عند ممارسة السلطة تحت قبة البرلمان بين التكتلات أو التربيطات .. ومع كل ذلك علينا ألا نتعجل الاحكام فما زال علينا أن نتحلى بالأمل والتفاؤل، حتى ولو كان فرط ثقه ، علَّنا نشاهد اداء مسئول واستعدادا من جانب النواب لتلقى الخبرة بتواضع .. وبعد عن الزهو والتسلط أو السيطرة ، وأن تتحلى هيئة المكتب ورئاسة المجلس بالصبر والحكمة ، لأننا فى النهاية ، يحكمنا الدستور بشروطه وأحكامه ، التى وضعت نصوصه فى حالة من الاضطراب والقلق .. وردود الافعال .. وهو ما يدعو واضعيه الى الشعور بالندم .. ومع ذلك مازال الأمل يراود الناس نحو اداء مسئول .. سداً للذرائع ومنعاً للحيل .. والناس كلها لأداء المجلس لمنتظرون ليكون أو لا يكون .. فهل تسمعنى !!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة