لكن ما يميز الوضع في أمريكا وربما غيرها من الدول الأوربية هو وجود "آلية" لإدارة الخلاف، بحيث لا يخرج عن إطار الجدل
الاستقطاب الشديد أصبح ظاهرة عالمية يمكن أن نشهدها في مختلف دول العالم، ونعيش أسوأ حالاتها الآن هنا في الولايات المتحدة. لكن ما يميز الوضع في أمريكا وربما غيرها من الدول الأوربية هو وجود "آلية " لإدارة الخلاف، بحيث لا يخرج عن إطار الجدل والصراع السياسي إلي استخدام العنف المسلح كأداة للتغيير.
هذه المقدمة ضرورية ونحن نقرأ المشهد السياسي القائم في مصر.. صحيح أن ذكرى الخامس والعشرين من يناير مرت بسلام، لكننا رأينا ما صاحبها من حالة استنفار أمني شديد لأسابيع، فيما يعبر عن احتقان سياسي لا يمكن فصله عن الجدل الدائر بشأن الثورة/المؤامرة في مصر.
ما يلاحظ في هذا الجدل هو أنه لم يعد قاصرا علي الاستقطاب التقليدي بين كتلة مؤيدي النظام في مصر ومؤيدي الإخوان، ولكنه في أغلبه بين أطراف تحالف ٣٠ يونية الذين خرجوا معا لإسقاط حكم الإخوان ثم حدث تمزق لذلك التحالف بين مؤيدي يناير ومن يرفضونها ويتهمون من شاركوا فيها بالعمالة والخيانة. المدهش أن ذلك يحدث بينما يخرج الرئيس السيسي كل عام لتحية الثورة وشهدائها. لكن الواقع هو أن أغلب مؤيديه الآن هم من يهاجمهون يناير، بينما يقف كثير من مؤيدي الثورة في معسكر مناهض للنظام أو ساخط عليه.
الإشكالية هنا أن الأوضاع لم تعد تحتمل المزيد من الاحتقان والانقسام بينما تمر البلاد بعواصف سياسية واقتصادية وتهديدات داخلية وخارجية، بما يتطلب تماسكا أكبر للمجتمع لأن النتيجة ستؤثر علي الجميع بالسلب أو الإيجاب وهو ما يعني ضرورة البحث عن مخرج من حالة الانقسام والاستقطاب الراهن.
لكن بعكس ما نراه في أمريكا والغرب عموما، لا نجد تلك الآلية لإدارة الخلاف والانقسامات، بما يسمح باستيعاب التناقضات القائمة وهو ما يمثل الخطر الأكبر.
وإذا كان من الصعب في اللحظة الحالية التوصل إلي تفاهمات أساسية بشأن الإخوان، فإن المفترض التوصل إلي معادلة تسمح بالتعايش علي الأقل بين شركاء ٣٠ يونية... وأنا هنا لا أقصد النظام تحديدا ولكن رجل الشارع العادي، بعد أن رأيت الخلافات تمزق نسيج أسر كنت أظنها عصية علي التفكك، فما بالنا بمجتمع كبير.
واعتقادي أن الخطوة الأولي للخروج من هذا المأزق هي الوصول إلي المشترك بشأن ٢٥ يناير.. فالسؤال المطروح حاليا بشأنها خاطئ.. فليس المطلوب أن يقنع أي طرف الآخر بما إذا كانت يناير ثورة أو مؤامرة لأن الجدل بشأنها سيصل غالبا إلي طريق مسدود لأنه يحكمه الكثير من الانفعالات والنظريات التي يصعب إثباتها أو إثبات عكسها... لكن أظن الأغلبية من الجانبين يمكنها أن تتفق أو تتفاهم علي أمور أساسية:
أولا: أن الأوضاع قبل يناير لم تكن وردية وأنها كانت تحمل داخلها عوامل الانفجار، بصرف النظر عما إذا كانت هناك أيد أجنبية وراء ما حدث كما تؤكد مجموعة المؤامرة.
ثانيا: أن الأوضاع الآن قد تكون أسوأ مما كانت عليه، ولكن لا يمكن الاكتفاء بلعن الثورة وإعفاء نظام مبارك من المسؤولية بعد أن سدت كل آفاق التغيير والاستجابة لتطلعات الناس المشروعة ولم يعد لديهم من وسيلة سوى الخروج إلي الشارع.
ثالثا: بصرف النظر عن موقف أي طرف من محمد البرادعي أو رموز ثورة يناير من الشباب، وحتي لو اتفقنا جدلا علي أنهم خونة وعملاء إلي آخر هذه القائمة من الاتهامات الموجهة لهم، فإنه لا يمكن الجدل في أن ملايين الناس ملأت الميادين في أنحاء البلاد من أجل المطالبة بالتغيير ولا يمكن وصم كل هؤلاء بالخيانة أو العمالة، ولا يمكن القول إنهم مجرد أدوات خرجت بدون وعي استجابة لدعوة من شخصيات لم يكونوا علي معرفة بها في ذلك الوقت.
رابعا: حتي لو اتفقنا جدلا أن المؤامرات العالمية كانت وراء تلك الأحداث، فلا يمكن الجدل في أنها ما كانت لتنجح بهذا الشكل بدون أرض خصبة ممهدة بسبب أخطاء نظام مبارك علي مدي ٣٠ عاما والتي يمكن تخليصها في: فساد، استبداد، توريث.
فإذا ما تم الحوار والتوافق ـ ولو جزئيا ـ حول هذه الأمور أو أغلبها، فإنه ينبغي الانطلاق إلي المرحلة التالية للبناء علي ما تم التوافق عليه والذي ينبغي أن يشمل:
أولا: إنه بصرف النظر عن الموقف من نظام مبارك فإن عوامل السخط عليه لا يجب أن تكون محل خلاف، ولا يمكن الانحياز إلي الفساد والاستبداد ومشروع التوريث لمجرد العناد أو التحزب القبلي، لأن العواقب ستكون وخيمة علي الجميع.
ثانيا: أن المطلوب الآن هو النظر إلي المستقبل دون الاستغراق في الماضي القريب أو البعيد بما ينزع قدرة المجتمع ككل علي الحركة والانطلاق.
ثالثا: إن التعامل مع الطرف (المهزوم) حاليا من مؤيدي الثورة يجب أن يتجاوز منطقة الانتقام التي أدت إلي خلق حالة غضب وتوتر عام وعدم استقرار، بما يضر بعملية البناء والاستقرار وجذب الاستثمار التي تحتاج إلي أجواء سياسية مختلفة.
رابعا: إذا كان بعض شباب الثورة وقادتها (خونة وعملاء ) كما يقول جزء كبير من رافضي الثورة، فإن التعامل معهم ينبغي أن يتم في إطار القانون وبعدالة وشفافية وبعيدا عن التشوية الإعلامي والاغتيال السياسي.
خامسا: ليس من مصلحة النظام الحالي في مصر الإبقاء علي حالة الغليان الحالية بين نسبة كبيرة من الشباب، فهو إن لم ينفجر فإنه سيفكر في الهجرة أو ينكفئ علي نفسه بعيدا عن العمل والمشاركة بما يفقد البلاد أكبر عوامل نهضتها.
سادسا: إن الثورة ـ حتي لو كانت مؤامرة ـ قد خلقت حالة إيجابية في المجتمع من الأمل والتفاؤل والإحساس بالقدرة علي التغيير ، وهي أمور يجب استغلالها والبناء عليها للنهوض بالبلاد.
سابعا: إن التعامل مع كل الأمور يتم حاليا من منطلق أهلي/زمالك، محكوما بالمعادلة الصفرية التي تجعل كل مكسب للطرف الآخر خسارة لك، مع استخدام لغة جمهور الدرجة الثالثة في الحوار حتي من قبل من يجلسون في "مقصورة" الإعلام والعمل السياسي.. هذا يعني الافتقاد للرؤية الصحيحة. فالمطلوب الآن هو إدراك أن المعادلة ليست صفرية وخسارة أي طرف هي خسارة للمجتمع ككل، ومكسب أي طرف سيصب في مصلحة الجميع.
هذه مجرد نقاط يمكن أن ينطلق منها أي حوار مجتمعي حقيقي يتصالح مع الماضي وينطلق إلي المستقبل. فمصر ليست أسوأ من جنوب إفريقيا تحت الحكم العنصري، ويجب أن تتعلم من تجارب الآخرين إذا كان لها أن تتجاوز ذلك المأزق التاريخي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة