أثيرت مسألة اندماج المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب منذ عقود، لكنها ازدادت إلحاحاً وعمقاً، وعنفاً في النقاش، بعد أحداث سبتمبر
أثيرت مسألة اندماج المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب منذ عقود، لكنها ازدادت إلحاحاً وعمقاً، وعنفاً في النقاش، بعد أحداث سبتمبر وتزايد موجات الإرهاب في العالم، وتوغّلها في معظم العواصم الأوروبية.
وبغضّ النظر عن ماهية (الاندماج) الذي تطالب به وزارات الهجرة في أوروبا، إن كان اندماجاً بالمعنى الانسجامي/ التصالحي مع الآخر، أم هو اندماج بمعنى الذوبان والتلاشي في الآخر؟ فإن الحديث عن ثقافة الاندماج يأتي وكأن العرب والمسلمين تحديداً هم أصحاب براءة الاختراع لها!
وسأتناول هنا نموذجين للممانعة عن الاندماج، سبقت النموذج العربي، وما زالت ملامحهما بائنة في المدن الغربية بالذات.
النموذج الأول هم اليهود. فلقد ظل الغيتو اليهودي (العزلة) عنصراً محورياً في مدونات الثقافة اليهودية، قديماً وحديثاً. والذي يتجول في المدن العربية التاريخية بالذات، سيجد عناوين (الحارة اليهودية) شائعة في صنعاء وبغداد والقاهرة ودمشق والرباط وفاس وغيرها كثير. كان اليهود يعيشون في عزلة عن المكون الاجتماعي العام والموروث الثقافي السائد في تلك المدن العربية حتى قبل هجرتهم منتصف القرن الماضي إلى إسرائيل وإلى أوروبا. ثم حتى بعد هجرتهم إلى أوروبا، وحتى بعد ازدياد نفوذهم وقوتهم في العالم وسيطرتهم على معظم مفاصل القوة الأوروبية، إلا أن كثيرين منهم ما زالوا يعيشون في غيتو، وإن أخذ شكلاً ثقافياً أكثر هذه المرة، عبر المحلات والأسواق والملاحم والمطاعم الخاصة باليهود.
أكتب من باريس، المدينة الميتروبوليتانية الأكثر تمدّناً في العالم، والأكثر انشغالاً باندماج المهاجرين العرب فيها ومآلات استعصاء ذلك، وهي التي تحتضن في دائرتها الرابعة (الحي اليهودي) المكتظ بمطاعم الكوشير «الحلال اليهودي» ورجالات المعاطف والقبعات واللحى السوداء. كما أن لندن وبرلين ومدريد وروما وبقية عواصم أوروبا لا تكاد تخلو من (حي يهودي) أو على الأقل الشارع اليهودي.
النموذج الثاني هم الصينيون. فالشعب الصيني الذي يتكاثر بالثواني، حتى تكاد الأرض الصينية الواسعة أن تضيق عليهم، تَزايَد انتشارهم، أو انتثارهم بالأصح، في كل مدن ووجهات العالم، لكنهم ظلوا عصيّين على الاندماج في مختلف المجتمعات التي يجاورونها، حتى اشتهرت المعالم السياحية للمدن الغربية بوجود (تشاينا تاون China Town) في كل مدينة.
القاسم المشترك بين اليهود والصينيين هو طغيان النزعة الاقتصادية والتجارية عندهم، مع اعتزازهم بثقافتهم المتوارثة منذ آلاف السنين، بغض النظر الآن عن نوع الثقافة وطريقة الاعتزاز بينهما. ربما انطلقت فلسفة العزلة اليهودية من فكرة نقاء العرق الساميّ وأنهم «شعب الله المختار»، لكن من أين انطلقت فلسفة العزلة عند الصينيين؟ لا أدري.
ما تريد أن تثيره هذه المقالة، هو السؤال عن مسوغات قبول الإعلام والمؤسسات الغربية لعدم الاندماج اليهودي والصيني، والحديث فقط عن عدم الاندماج العربي والمسلم؟!
هل للعلاقة التاريخية المتوترة بين أوروبا والعالم العربي علاقة بهذا التمييز، أم أن الأحداث الراهنة فقط هي التي استدعت هذا، باعتبار أن العلاقة التاريخية كانت متوترة أيضاً بين أوروبا المسيحية واليهود، لكنها الآن في مرحلة سكون؟
والسؤال المحوري هو: إذا كانت العزلة اليهودية والصينية لم تؤدّ إلى مشاكل اجتماعية أو أمنية قد تؤول إلى الإرهاب، فهل يمكننا التشكيك إذاً في أن عدم الاندماج العربي هو السبب في مشاكل المهاجرين العرب، وأن هناك أسباباً أخرى أحالت العزلة العربية والإسلامية في أوروبا إلى هاجس مقلق؟!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة