لهذه الأسباب اقترحت ارجاء العمل بالقانون لحين مناقشته أمام البرلمان وتوضيح الغموض المحيط به وتصحيح عيوبه ووضع جدول زمنى
كان فى نيتى الكتابة هذا الأسبوع عن ثورة الخامس والعشرين من يناير فى عيدها الخامس والمشاركة فى الحوار الدائر حولها من خلال المقالات والتعليقات القيمة للعديد من الزملاء والأصدقاء.
ولكن فضلت التأجيل للأسبوع المقبل حتى تتاح لى فرصة التعليق على موضوع شديد الأهمية والإلحاح، وهو تداعيات رفض مجلس النواب لقانون الخدمة المدنية، قبل إعادة مناقشته فى البرلمان مرة أخرى خلال الأسبوع المقبل.
وكنت قد كتبت مقالا على صفحات هذه الجريدة يوم ١٨ أغسطس ٢٠١٥ عبرت فيه عن اعتقادى بأن قانون الخدمة المدنية يمثل فى مجمله خطوة اصلاحية كبيرة لما يتضمنه من محاولة جادة لتصحيح إجراءات الاعلان عن الوظائف العامة، واختبار المتقدمين لها، وتعيين الموظفين، وقياس أدائهم، وترقيتهم، وإنهاء عملهم.
ولكن اقترحت وقتها وقف العمل بالقانون لحين تشكيل مجلس النواب للأسباب التالية:
(١) لأن إصدار تشريع بهذه الأهمية فى غياب البرلمان قد خالف مفهوم التفويض التشريعى الممنوح لرئيس الجمهورية فى حالتى الاستعجال والضرورة فقط، (٢) لأن القانون أحال كل الضوابط والتفاصيل الموضوعية إلى اللائحة التنفيدية التى يصدرها مجلس الوزراء بما يجعل بمقدور الحكومة أن تعدل فيه بمطلق سلطتها فى المستقبل ودون الرجوع لمجلس النواب، (٣) لأنه استبعد من نطاق تطبيقه كل الموظفين الخاضعين لقوانين وكوادر خاصة بما يرسخ التفرقة فى الوظيفة العامة ويزيد من الفجوة داخل الجهاز الإدارى للدولة، (٤) لأن القانون كان به بعض الغموض فيما يتعلق بالعلاوات وكيفية احتساب زيادتها السنوية، وأخيرا (٥) لأنه جرى تطبيقه بعد ثلاثة أشهر فقط من صدوره بينما الوقت اللازم لإجراء التغيرات المطلوبة داخل الأجهزة الحكومية من أجل تطبيق أساليب التنمية البشرية التى يسعى القانون لتحقيقها لا يمكن أن يستغرق أقل من عامين.
لهذه الأسباب اقترحت ارجاء العمل بالقانون لحين مناقشته أمام البرلمان وتوضيح الغموض المحيط به وتصحيح عيوبه ووضع جدول زمنى واقعى لتطبيقه بما يجعله مفهوما من الناس ومقبولا من المجتمع.
والواقع أن البرلمان ــ برفض قانون الخدمة المدنية ــ لم يمارس سوى الحد الأدنى من صلاحيته المنصوص عليها فى المادة (١٥٦) من الدستور، إذ لم يعترض سوى على هذا القانون فقط من بين أكثر من ثلاثمائة وأربعين قانونا عرضت عليه وجرى إقرارها بسرعة البرق وأحيانا دون مناقشة جدية، وكانت النتيجة أن قوانين شديدة السوء ومخالفة للدستور قد مرت مرور الكرام وباتت نهائية، وعلى رأسها ــ فى المجال الاقتصادى ــ قانون الاستثمار الذى لم تستغرق مناقشته فى الجلسة العامة سوى دقائق معدودة برغم حجم الضرر البالغ الذى أوقعه بمناخ الاستثمار.
ولكن اهتمام الرأى العام بقانون الخدمة المدنية بالذات ومتابعة ملايين الموظفين وأسرهم لمصيره هو ما جعله القانون اليتيم الذى يرفضه البرلمان ويطالب بإعادته للمناقشة.
ليست مشكلة إذن ولا أزمة كبرى أن تُعاد مناقشة القانون، وأن يسترد البرلمان صلاحيته بالنسبة لهذا التشريع على الأقل، وأن تضطر الحكومة لمواجهة النواب والرأى العام وتبرير ما تعرضه لأن هذا هو الوضع الطبيعى. وقد كان بمقدور الدولة أن تعتبر رفض القانون وإعادته للمناقشة فرصة لتصويب ما به من عيوب، ولتعريف الرأى العام بتفاصيله، ولتأكيد مشروعيته.
المشكلة أنها اختارت أن تعتبر أن رفض البرلمان فيه استهتار بالوضع الاقتصادى، ومزايدة سياسية، وخروجا عن طوع النظام، ثم اتجهت إلى التهديد بأن رفضه يضيع على مصر قروضا ومعونات دولية، ويزيد من عجز الموازنة، وهذا كله لا يسىء فقط إلى مصداقية الدولة وإنما إلى مصداقية مجلس النواب أيضا.
أما القول بأن عرض مثل هذا القانون المعقد على مجلس لا يبدو عليه الانضباط ولا حسن التقدير يمكن أن يؤدى إلى تشويهه والخروج به عن غرضه الأصلى فهو قول معيب، لأنه يغفل أن مهمة البرلمانات فى العالم كله ليست اصدار أكثر القوانين جودة وحرفية، فهذا عمل يمكن ان تقوم به وبشكل أفضل لجنة خبراء قانونيين لو كان المطلوب مجرد حسن الصياغة ودقة التعبير.
مهمة البرلمان أن يصدر قوانين تعبر عن إرادة الشعب وعن رأى النواب ولو كانت أقل جودة أو أقل اتفاقا مع رؤية الحكومة، وأن تكون مناقشته للتشريعات المعروضة عليه فرصة لكى يتابع الناس ما تقترحه الحكومة ويكونوا رأيا بشأنه فيكتسب بذلك شرعية كاملة. ولهذا فإن الجدل الدائر حول هذا القانون لا يتعلق فقط بنصوص ومواد قد يجرى تعديلها أو الإبقاء عليها، بل برؤية الدولة لدور المجلس النيابى وما إذا كانت تعتبره مستقلا وممثلا لإرادة الشعب أم مجرد جهة تصديق على تعليماتها وإرادتها.
أؤكد مرة أخرى أن القانون فى مجمله وفيما يسعى لتحقيقه من تطوير شامل وجذرى للجهاز الإدارى للدولة قانون جيد ويستحق أن يصدر مرة أخرى، ولكن بشرط أن يتضمن الأحكام الموضوعية المهمة التى تم إحالتها إلى اللائحة التنفيذية، وأن يسرى على جميع العاملين بالجهاز الإدارى للدولة، وأن يتناول بشفافية أكبر موضوع الأجور والعلاوات السنوية، وأن يتم تطبيقه تدريجيا. فإذا صدر على هذا النحو نكون عندئذ قد كسبنا ثلاث مرات: قانونا جيدا، وقبولا من المجتمع، وبعض المصداقية للبرلمان.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة للشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة