تنتهي رواية «أنا حرة» بعلاقة ارتباط كاملة بين عباس وأمينة. وتنتهي صفحات الرواية بما تنطوي عليها من فهم خاص للحرية
تنتهي رواية «أنا حرة» بعلاقة ارتباط كاملة بين عباس وأمينة.
وتنتهي صفحات الرواية بما تنطوي عليها من فهم خاص للحرية التي تنبني علي التزام كامل بين اثنين في علاقة حرة مسئولة، خارج مؤسسة الزواج المعتادة أو المتوقعة.
وهو وضع كان لابد أن يطرح نفسه علي صناع الفيلم الذي عرض 1956. وتقول بطلة الفيلم لبني عبد العزيز: إن شخصية الفتاة المتمردة التي قدمتها في الفيلم مستوحاة من شخصيتها. وتستطرد قائلة في كتاب «نجوم لا يعرفها أحد» للكاتب مصطفي ياسين، إنها بدأت تختلف مع والدتها خلال مرحلة المراهقة، ويصبح لها آراء ومواقف ووجهات نظر في كل شيء حولها، وكانت تشعر بأن والدتها ضدها علي طول الخط، ولم تعجب الأم بأفكار ابنتها التي كانت ضدها. وكان والدها يحاول أن يقف في صفها في صراعها مع والدتها.
وتواصل لبني كلامها قائلة: «أذكر أن الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس قال لي: أنا كتبت رواية «أنا حرة» بعد أن استوحيت ملامحها وشخصية البطلة منك. فقد كان إحسان صديقا لوالدي وجارا لنا في حي جاردن سيتي، وعاصر إصراري علي رفضي كلية الآداب ورغبتي في الالتحاق بالجامعة الأمريكية، لأن الدارسين بها عددهم قليل وشهادتها غير معترف بها.
وأضافت عندما قدمت فيلم «أنا حرة» عام 1956 شعرت بأن الباب انفتح أمام هذه الصيحة الجميلة لحرية المرأة، ورغم ذلك كنت أحس أننا نخطو خطوة للأمام، ثم نعود خطوات للخلف، وما زلنا في معركة التحدي للحصول علي الحرية الكاملة للمرأة.
مؤكد أن هذا الذي تقوله لبني عبد العزيز ينطبق علي أمينة بطلة «أنا حرة» التي رأت أن الجامعة الأمريكية تمنح حرية أوسع من تلك التي كان يمكن أن تجدها في جامعة القاهرة. وأن هذه الحرية يمكن أن تؤدي إلي ارتباط حر، يتحدي مؤسسة الزواج، فلا يقبل بها، ويمضي في قرانه الحر ثماني سنوات.
وهذا هو التحدي الاجتماعي الأخلاقي الذي فرض نفسه علي صناع الفيلم. أعني المنتج رمسيس نجيب الذي انتهي به الأمر إلي الزواج من لبني عبد العزيز وتخليه عن ديانته المسيحية من أجل الزواج بها في مطلع الستينيات بعد أن صارت بطلة لأهم أفلامه. وقد نجح في إقناع والدها المتفتح الذهن علي الموافقة علي زواجه منها. أقول: وافق علي زواجها رسميا في مؤسسة زواج تفرض نفسها عليهما في قبول الزواج من حيث هو مؤسسة يقبلها ويباركها المجتمع، وذلك علي النقيض من العلاقة المفتوحة التي يستمر بها ارتباط عباس وأمينة في الرواية.
ولكن هذا الوضع المتحرر المقبول في العالم الغربي، ونموذجه العلاقة بين ان بول سارتر وسيمون دي بوڤوار، لم يكن مقبولا في العالم العربي الإسلامي، ولهذا كانت هذه العلاقة في الرواية تحديا يطرح نفسه علي كل من رمسيس نجيب المنتج وصلاح أبو سيف المخرج وعلي نجيب محفوظ كاتب السيناريو وسيد بدير كاتب الحوار. هل يتركان هذه الإشكالية كما هي، فتقوم الدنيا ولا تقعد، أم يحلان الأمر بما يرضي المؤسسة الاجتماعية المحافظة بطبيعتها، خصوصا أن الفيلم سيراه شبان وشابات تربوا علي التمسك بالتقاليد التي تجعل من الأسرة عماد المجتمع؟!.
هنا: كان لابد للسيناريست وكاتب الحوار أن يتصرفا بما لا يصطدم بالتقاليد، فعادا بزمن الفيلم إلي ما قبل ثورة يوليو بسنوات، وجعلا من عباس (شكري سرحان) الحبيب القديم من شارع الجنزوري في العباسية، محررا في صحيفة ثورية ضد فساد الملك وسلطة الاستعمار. وعندما تتخرج أمينة تعمل في شركة إعلانات أجنبية، وتصل إلي منصب مرموق. لكن قراءة مقال للحبيب القديم تعيدها إلي ذكريات المراهقة، والحب الأول، عملا بقول الشاعر:
نَقِّل فُؤادك حيث شئت من الهوي .. ما الحب إلا للحبيب الأوَّلِ
وتعود المحبة القديمة إلي الظهور، ويتلقي الاثنان سهم كيوبيد الذي يصل بينهما، وشيئا فشيئا يستغرق الحب أمينة (لبني عبد العزيز) وعباس (شكري سرحان)، وتندمج أمينة مع عباس في تنسم حرية قضية كبري، هي قضية حرية الوطن الذي يصبح فيها الحبيبان جنديين في معركة. ويصل الأمر بأمينة إلي التضحية بعملها الذي أخذت تدرك أنه يعوق حريتها في الوقوف إلي جانب حبيبها في النضال من أجل حرية الوطن. وذلك في زمن كانت لا تزال تتردد فيه أصداء هتافات «الجلاء التام أو الموت الزؤام». ويقبض البوليس علي أمينة، ويجد في بيتها منشورات التحريض علي الثورة. ويدخل الحبيبان السجن. وفي السجن يقرر كلاهما أن يقترن بقرينه علي سنة الله ورسوله ومذهب أبي حنيفة النعمان، وتوافق إدارة السجن. ويعود السجينان إلي سجنهما. لكن شمس الثالث والعشرين من يوليو تبدو بالغة القرب، يغمر ضوؤها السجينين اللذين عملا معا من أجل حرية الوطن.
وهكذا ندرك، نحن الذين نشاهد الفيلم، أن حرية المواطن لا تكتمل إلا بحرية الوطن، فلا معني لحرية أفراد في غياب حرية الوطن الذي يتحرر بنضال أبنائه الأحرار مثل أمينة وعباس: والاسمان يعود بنا دالهما الثوري إلي نقيضه الرجعي في روايات نجيب محفوظ التي سرعان ما أصبحت سينما، فأمينة إحسان عبد القدوس نقيض أمينة نجيب محفوظ الخانعة لسي السيد أحمد عبد الجواد. وعباس هو النقيض الكامل، علي مستوي التناص لنقيضه عباس الحلو الذي سرقت منه حميدة ـ في زقاق المدق ـ وكان عليه أن يسترجعها بالقوة، فقتله الإنجليز.
وهكذا هرب نجيب محفوظ وسيد بدير، كاتبا السيناريو والحوار، من مأزق ازدراء الزواج بوصفه مؤسسة اجتماعية تقليدية، وربطا احترام الزواج (المؤسسة) بالنهاية السعيدة التي سترضي عنها الآلاف المؤلفة من مشاهدي الفيلم. ولا بأس في هذه الحالة من الختام المتفائل الذي تتردد فيه صرخة «أنا حرة» علامة علي امرأة جديدة صاعدة وواعدة.
امرأة يوازي صعودها في الفيلم صعودها في المجتمع، مقرونة بدخول المرأة نائبة في مجلس الأمة، شأنها في ذلك شأن الرجال، والسماح لها بترشيح نفسها في أول مجلس أمة عام 1957. بعد عرض فيلم «أنا حرة» بعام واحد. ومعني ذلك أن الأبواب المغلقة أمام المرأة، في عام 1954، سرعان ما انفتحت بعد عرض فيلم «أنا حرة» الذي كان الحضور الصاعد لأمينة فيه، هو بداية صعود المرأة المصرية واقتحامها الأبواب المغلقة، وذلك في السياق التاريخي الذي عرض فيه فيلم «الباب المفتوح» عن قصة لطيفة الزيات التي ظهرت علي الشاشة الفضية سنة 1963 وفيه ذ الفيلم- كانت ليلي (فاتن حمامة) تشارك في المظاهرات الطلابية، وتسعي لتأكيد وجودها الحر كأنها الامتداد الطبيعي لأمينة إحسان عبد القدوس، ولذلك كانت النهاية المتفائلة لفيلم «أنا حرة» إرهاصا بالنهاية المتفائلة لفيلم «الباب المفتوح» التي أكدت فيه فاتن حمامة نموذج مناضلة مثل لطيفة الزيات التي انتخبت سكرتيرة اللجنة الوطنية العليا لاتحاد الطلبة والعمال سنة 1946.
وهي اللجنة التي كانت تحقيقا لأحلام الحرية التي كانت تتطلع إليها فتيات الطبقة الوسطي التي فتح لها عبد الناصر أبواب الجامعة بالمجان، وفتح لها طريق العمل السياسي وأبوابه، فتحولت قصص الحب البارزة في الخمسينيات إلي قصص نضال وطني يشارك فيه الحبيبان اللذان يدركان أنه لا حب إلا في وطن حر، وأن حرية المرأة كحرية الرجل تماما في مجتمع يرفض الفساد أو الاستغلال ويسعي نحو مستقبل أفضل، ولذلك لم يكن من الغريب أن يصدر يوسف إدريس روايته القصيرة «قصة حب» في إحدي مجموعاته القصصية التي صدرت سنة 1957، العام الذي بدأ بهزيمة العدوان الثلاثي علي مصر، فيعود يوسف إدريس إلي إدخال المرأة في النضال السري ضد الاستعمار والملكية الفاسدة، وتظهر الرواية في فيلم بعنوان لا وقت للحبس سنة 1963، وتظهر القصة علي الشاشة، مؤكدة تطور نموذج أمينة في فيلم «أنا حرة» ليغدو - بعد تعديله- نموذجا جديدا، خريج جامعة وطنية، مهوّس بفكرة النضال الوطني، ويري فرضا عليه أن يشارك الوطنيين الأحرار في تحرير الوطن. وهكذا تتحول فاتن حمامة من نموذج ليلي في الباب المفتوح إلي نموذج «فوزية» في لا وقت للحبس وتدخل في علاقة حب جديدة مع حمزة (رشدي أباظة). والأسماء الثلاثة ـ أمينة وليلي وفوزية ـ تحمل السمات المتفائلة لمرحلة الخمسينيات الصاعدة بأحلام التحرر الوطني للأمة والتحرر الاجتماعي للمرأة. واللافت للانتباه أن صلاح أبو سيف أخرج فيلمي «أنا حرة» و«لا وقت للحب» معا، بينما أخرج هنري بركات فيلم «الباب المفتوح».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة