لا ينكر إلا جاهل حجم التحديات التى تواجه مصر فى الوقت الحالى.. ولا جدال فى أن النظام الحاكم فى مصر يجتاز حقول ألغام متنوعة
لا ينكر إلا جاهل حجم التحديات التى تواجه مصر فى الوقت الحالى.. ولا جدال فى أن النظام الحاكم فى مصر يجتاز حقول ألغام متنوعة أهمها من وجهة نظرى الفساد ثم الارهاب ثم الفقر والجهل والمرض ، وعند عبور حقل ألغام نعرف من العلم العسكرى أنك أمام ثلاثة خيارات ، فاما أن تحيطه بأسوار شائكة وتمنع الاقتراب منه وتلتف من حوله ، واما أن تضع ماسورة بها متفجرات تفجر محتوياتها كى تفتح طريقاً محدوداً تمر عليه من بين الألغام ، واما أن ينتشر أفراد المهندسين بالمواجهة كى يتقدموا صفاً واحداً كى يزيلوا الألغام كلها من الحقل المستهدف ، بهدف تطهيره بالكامل ..
وكل خيار له مزاياه وعيوبه ، ولكن الأخطار موجودة على أى حال ..
فالخيار الأول يوفر الوقت والجهد ويتيح سرعة التحرك لمراحل تالية فى مواجهة مصاعب وتعقيدات المعركة، الا أن خطورته تتمثل فى أن الأنساق التالية قد تتورط فيه، أو اذا اضطرتك الظروف الى بعض التقهقر ، وفى كل الأحوال يبقى أن الحقل قد يستمر تهديداً لأجيال متعاقبة ، مثل الحقول التى مازالت رابضة فى صحرائنا الغربية .. أن الخيار السابق يعنى تأجيل حل المشاكل الحالية ، أما الخيار الثانى فقد يوفر بدوره بعض السرعة فى التقدم الى الامام ، الا أن العبور نفسه يكون محفوفاً بتهديدات واسعة ، لأن أى خطأ فى التحرك يؤدى الى الانحراف عن الطريق الضيق الذى تم تمهيده كما أن باقى عيوب الاختيار الأول تظل كامنة ، أى أن هذا الاختيار هو ادعاء التوصل الى حل ، بينما فى الواقع هو حل جزئى لا فائدة له على المدى المتوسط والبعيد ، ولا شك أن الخيار الثالث هو أفضل الخيارات ، وأعنى به المواجهة الشاملة التى تستهدف ازالة كل الألغام بحسم وحرص ، الا أن من العيوب الجوهرية لهذا الخيار أن الوقت المستهلك قد يؤخر الحركة الى الأمام ، ولكن انجازه بلا شك يحقق تقدما آمنا مستقرا ثابتا ..
أن أخطر الخيارات على الاطلاق هو أن ترقد أمام حقل الألغام كى تحلم بأنك تقهره وتعبره فى الخيال ، وتكتفى بالأغانى الحماسية وخطب الدعاة فوق المنابر تصب لعناتها على حقل الألغام لغماً لغماً ، وبعض أراجوزات الفضائيات تبيع وهم الحلم الحل للناس /الضحايا كل ليلة ..
أن مسئولية القادة فى الدول الأقل نمواً لا تتيح لهم ترف التمدد فى أحلامهم، فعليهم دائماً أن يجعلوا رؤياهم فى اطار قدراتهم المادية الممكنة، وأن يعتمدوا استراتيجية تدريجية تلاءم الظروف المحيطة بهم.. وكما قيل، فأنه قد يكون من المؤلم ألا تتحقق أحلامك، الا أن الأشد ايلاما هو عندما تتحقق بعض هذه الأحلام وتكون غير جاهز على مواجهة تبعاتها، وذلك موضوع قد يطول تفسيره.. ومن أبرز حقول الألغام التى يعبرها الوطن حالياً، حقل الارهاب، والذى سبق لهذا الكاتب أن أعطى وصفة للتغلب عليه استناداً الى خبرة عسكرية وسياسية معقولة، ولعلى أؤكد مرة أخرى أنه من الخطورة بمكان الاكتفاء بالاجراءات الأمنية المتشددة، أو الانحراف بتلك الاجراءات كى تدوس على الحريات والحقوق التى كفلها الدستور.
ومن المؤسف أن البعض هلل للاجراءات الأمنية التى أتخذتها فرنسا وبلجيكا فى مواجهة الارهاب، وأعتبروها مثالاً يحتذى فى التطبيق النموذجى لانتهاك حقوق الانسان من أجل حماية أمن الوطن!!، بل وطالبوا السلطات المصرية أن تتعلم من الغرب «كيف أنهم لا يعتقلون أحداً وانما يقتلون مباشرة!!»..
الى آخر هذه الهلوسة التى أصابت البعض دون قراءة حقيقية لطبيعة تلك المجتمعات التى يتحدثون عنها ، وطبيعة دولة المؤسسات المحكومة بالدستور والقوانين ، بل وسيطرة الدولة المدنية بالكامل على كل الأجهزة الأمنية، وخضوع تلك الأجهزة لرقابة لصيقة من البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدنى المختلفة. وكما أسلفت فى مقدمة هذا المقال ، يتضح أن لكل مشكلة علاج يتمثل فى الاختيار بين بدائل مختلفة، وهذا ما يمكن تصوره فى التقارير والأبحاث التى تعرض على القيادة لمواجهة الارهاب، فمن المعروف أن الأسلوب الغالب فى صياغة تقارير هذه الأجهزة يتلخص فى عرض المشكلة ثم طرح بعض البدائل على القيادة كى تختار من بينها، وفى الغالب تكون ثلاثة بدائل كى يختار الرئيس أو الملك واحداً منها، ويلاحظ أنه يتم وضع مزايا وعيوب اختيار كل بديل، وتقوم الأجهزة فى الغالب باضعاف بديلين الى درجة اعدامهما من بين الخيارات بحيث لا يبقى أمام متخذ القرار الا بديل واحد يكون ترتيبه الثانى عادة..!!.
فعلى سبيل المثال قد تصاغ بدائل مواجهة الارهاب فى منطقة ما على النحو التالى: الخيارالأول: اجراء مواجهات فكرية ومراجعات لأسس التجنيد المتطرف بهدف تجفيف الينابيع/ وميزة هذا الخيار أنه يضمن ازالة جذور الارهاب الا أن عيوبه عديدة.. الخيار الثانى: فرض حالة الطوارئ واعتقال وتعذيب المشتبه فيهم لضمان التوصل الى شبكات الارهاب ، والمسارعة فى القتل عند الاشتباه/ وعيب هذا الخيار أنه ينتهك بعض الحقوق الأساسية للمواطن، ولكن مزاياه عديدة.. أما الخيار الثالث فهو: معالجة مشاكل الفقر فى المناطق المهمشة التى تمثل بؤراً لتخليق الخلايا الارهابية، وميزة هذا الخيار أنه يواجه أحد أهم أسباب الظاهرة الارهابية، ولكن عيوبه كثيرة.
باختصار رغم تعدد البدائل التى يعرضها المختصون فإن صانع القرار قد لا يجد فى النهاية سوى البديل الثانى بوصفه الخيار الأمثل، رغم أنه ببعض التمحيص يمكن اكتشاف العيوب الخطيرة التى تكتنفه ، والتى تشبه أن يطلب القائد من جنوده الاندفاع بحماس وشجاعة فى حقل الألغام كى يجتازوه ، مع بعض أناشيد حماسية عن التضحية، وبرامج فضائية عن حب الوطن وشتائم ضد الطابور الخامس غير الموجود سوى فى أوهامهم... النتيجة المؤكدة هى هزيمة مؤكدة وبقاء حقل الألغام على حاله !!!.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة