لا أحد يعرف تاريخ ومكان التقاط هذه الصور بالضبط، سوى صاحبتها، فالجيل الأصغر كان يحبو أو محمولا على الأكتاف وقتها.
لا أحد يعرف تاريخ ومكان التقاط هذه الصور بالضبط، سوى صاحبتها، فالجيل الأصغر كان يحبو أو محمولا على الأكتاف وقتها.
تتساءل عن هوية السيدة التى تشبه نجمات السينما، فترد الخالة العجوز بزهو وتلمع عيناها:
أنا! تتجول ببصرك بين كل هذه الصور التى تزين الصالون أو تلك التى وضعت بعناية فوق البيانو الأسود الألمانى القديم: زفاف، ورحلات صيفية، وسفرات، وخلافه.
أشخاص داخل إطار فضى أو خشبى. الرأس تميل قليلا إلى اليسار، والذقن إلى أسفل، وابتسامة مرسومة تظهر جمال أحمر الشفاه، رغم اختفاء الألوان.
تسرح فى الماضى البعيد لكل هؤلاء، فى حواديتهم الشخصية التى ترويها هذه اللقطات ويوم أخذت ويوم تبعث حية.
تعلم أن أصحاب المنزل قرروا توزيع بعضها فقط على الجدران، فى حين يوجد الكثير منها داخل الألبومات والأكياس فى غرفة النوم، سواء لأنها تبدو فى نظرهم أقل جمالا أو أقل أهمية أو أكثر سرية وخصوصية.
هذا هو المختصر المفيد الذى أرادوا عرضه أو مشاركته مع الآخرين، أما ما تبقى فربما لم يحمل لهم سعادة تذكر أو ينتمى لأفراد ذهبوا إلى غير رجعة من حياتهم ولا يحملون إليهم سوى كل ضغينة، أو لا يودون الاعتراف بعلاقتهم الفاترة معهم حاليا، فلا شىء يظل على حاله حتى أشكالنا.
تمعن النظر فى وجه ربة المنزل التى كانت تبدو سعيدة وفى كامل أناقتها الباريسية. تلاحظ حجم التغيرات التى طرأت عليها منذ أيام الأبيض والأسود، حتى بات لا يمكن التعرف عليها: الوزن ولون الشعر وتسريحته، بل قسمات الوجه وتعبيراته ومقدار الرضا.
الواقفة أمامك لا تشبه الأولى، لا من قريب ولا من بعيد.
غطت شعرها مثل أغلبية النساء، واتسعت ملابسها، وتبدلت أوضاعها الاقتصادية، ولم يعد فى مقدورها التسوق من أرقى المحلات كما فى السابق أو الذهاب إلى كوافير يغير طبيعة شعرها المجعد. والأهم تلاشت السكينة بداخلها.
***
يمكن أن تستنتج الكثير من خلال الصور.
تحولات الأسر وظروفها المعيشية تظهر على الجدران:
كيف انتقل بعض الناس من الجلابية والطربوش إلى البذلات والمايوهات أو إلى الحجاب، والعكس صحيح، من تزوج بمن وفى أى ظروف لكى تنشأ مجتمعات وأنساب مختلفة... كل ذلك يمكن قراءته من خلال الصور العائلية أو الفردية، من بيت إلى بيت، وعلى اختلاف الطبقات، رغم أنها مجرد شوية صور.
ليس المقصود أن تعيش فى الماضى مع الصور، لكن أن ترى كيف انتقلت الصور نفسها التى كانت تزين الصالون إلى صفحات الفيسبوك، فاستقبال الضيوف فى الصالون، تلك العادة البورجوازية التى ظهرت فى القرن التاسع عشر، بتخصيص حجرة من حجرات المنزل للتعاطى مع الغرباء، صارت تترجم بشكل مختلف على الإنترنت.
كان للصالون فى بعض الشقق باب خارجى منفصلا، يسمح للزائر بالدخول فقط إلى الصالون، مباشرة، ودون المرور بباقى المنزل أو مضايقة أهله.
واعتبر اجتماعيا مساحة مختلطة بين الشخصى والعام. ولسبب أو لآخر، قررت بعض الأسر أن «تأسطر» حالها أو تؤرخ لنفسها عبر صور الصالون.
تقول لمن يأتى للزيارة أهلا وسهلا بك فى بيت فلان أو آل فلان، نحن هنا، وهذا مكانك فالتتفضل، لكن بشروط وقواعد تحترم أصول هذا البيت.
***
أن ترغب بشدة فى أن تقول «أنا هنا، أو نحن هنا» هو ما جعل البشر قديما يتركون بصمة كف يدهم على أحجار كهوف ما قبل التاريخ، وهو ما يجعل أحدهم يكتب اسمه وحبيبته على الأشجار أو يلتقط صورة لها فتضعها على الفيسبوك وتقول: «أنا هنا، ذهبت مع شريك حياتى إلى هنا وهنا وهنا، وها هى الصور والدليل على أننا معا وأننا لبعضنا».
والمصور الشاطر هو من يساعد الشخص الذى أمامه على أن يكون على راحته أو يكشف بلقطة ذكية أو غير مقصودة معنى كان مخفيا، فالصور أيضا تبرز علاقة الفرد بجسده ومدى الدفء أو الثقة التى وفرتهما له العائلة.
كما تبرز حجم الرضا عن الذات وحب النفس، لذا فالأشخاص الأكثر نرجسية عادة لا تعجبهم صورهم، ففكرتهم عن أنفسهم دائما أفضل من الصورة ولا شىء يضاهيها، أما من يضعون صورهم فى كل مكان وينشرون كل يوم صورة جديدة على الفيسبوك، هم غالبا الأقل ثقة فى النفس ويسعون للحصول على اعتراف وإعجاب الآخرين لسد نقص أو فراغ ما. يريدون أن يعكسوا صورة معينة لهم فى إطار معين، لكى يتركوا انطباعا معينا لدى جمهورهم المحدود أو الواسع على الفيسبوك، كما لو كانوا على موعد معهم ويستعدون لمقابلتهم بملبس وشكل معين، أو كما لو كانوا يختارون صورا محددة لهم للعرض فى الصالون، ويتركون صورا أخرى لوضعها على المنضدة الصغيرة إلى جوار السرير، لتكون آخر شىء يرونه قبل النوم.
تلك هى بعض المعايير والأفكار التى يعتمدها المتخصصون فى مجال شبكات التواصل الاجتماعى لتحليل عينات المستخدمين وهى التى يحددون وفقا لها أنماط الشخصيات المختلفة، عندما يبعثون لك باختبارات مسلية على الفيسبوك، ليتعرفوا على «بروفايل» المشترك من خلال «شوية الصور» التى اختارها لنفسه، سواء ظهر فيها أو لا، فلكل اختيار دلالاته، وما يترتب عليها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة