هل تخسر الولايات المتّحدة قلوب العرب وعقولهم بسياستها الراهنة التي يتحكّم بها الانكفاء فيما يصفها البعض بالتواطؤ مع روسيا
هل تخسر الولايات المتّحدة قلوب العرب وعقولهم بسياستها الراهنة التي يتحكّم بها الانكفاء فيما يصفها البعض بالتواطؤ مع روسيا وربّما مع إيران أيضاً؟
الحال أنّه منذ 1967 هناك أزمة بين العرب والولايات المتّحدة، يجوز وصفها بالعاطفيّة التي اندفعت إلى ما يتعدّى السياسة. ذاك أنّ أميركا بوقوفها مع إسرائيل عزّزت تعرّض العرب لإهانة قاسية وشهيرة في ستّة أيّام. وكان جمال عبد الناصر، في بحثه عن أعذار لهزيمته، قد تفنّن، على نحو خالطَه المسرحيّ والفانتازيّ، في توكيد «التدخّل» العسكريّ الأميركيّ في تلك الحرب.
قبل ذلك، وكخلفيّة لتلك الأزمة العاطفيّة، عتّم العرب على الدور الأميركيّ في تأييد الثورة الجزائريّة للاستقلال عن فرنسا، وخصوصاً في تأييد مصر عام 1956 ضدّ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وهو ما حوّل الانتصار العسكريّ للدول الأخيرة هزيمةً سياسيّة. لكنْ حين خرج الزعيم المصريّ «منتصراً»، حوّل البلدان العربيّة ساحات اشتباك محموم مع النفوذ الغربيّ، بالتحالف والتنسيق مع الاتّحاد السوفياتيّ.
بعد ذاك، ومع قيام أميركا، على رأس تحالف كونيّ ضخم، بتحرير الكويت عام 1991، انحازت الغالبيّات الشعبيّة العربيّة لصدّام حسين وغزوه، وتأكّد لتلك الغالبيّات ما كان مؤكّداً من وقوف أميركا مع تجزئة العرب وتخلّفهم.
لكنّ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والسؤال الأميركيّ المتكرّر والساذج «لماذا يكرهوننا؟»، وضعا المسألة العاطفيّة في الصدارة. وزاد الأمر مع حرب العراق، بعد عامين، حيث التقى أغلب كارهي صدّام وكلّ مُريديه عند التنديد بأميركا. أمّا الذين لم يندّدوا، مشدّدين على استمرار صداقتهم مع واشنطن، فاتّبعوا سياسة صمت وتنصّل مؤثرين ترك صديقهم يغرق في المستنقع العراقيّ.
ومع الثورات، بدا كأنّ الأزمة العاطفيّة استرخت قليلاً، أو مسّها خدر ما: فواشنطن اكتشفت، بشيء من التعثّر والتردّد، أنّ العرب ليسوا استثناء على الديموقراطيّة، وبعض العرب رأوا أنّ التدخّل الجويّ للأطلسي في ليبيا، واحتمال التدخّل في سوريّة، قابلان لأن يفتحا صفحة جديدة تكون هذه المرّة لمصلحة الشعوب. بيد أنّ التردّد والالتواء الأوباميّين ما لبثا أن أقنعا الكثيرين بالتسمّر في مواقفهم السابقة. وإذ يؤخذ اليوم على الولايات المتّحدة ما كان يؤخذ دائماً من أنّها أنانيّة، لا يفعل احتمال التدخّل الغربيّ مجدّداً في ليبيا سوى تعزيز الصورة هذه: ذاك أنّ الغربيّين لن يتدخّلوا، إذا فعلوا، إلاّ لمكافحة «داعش». أمّا الانسحاب من العراق ثمّ العودة الجزئيّة إليه فهما أيضاً يندرجان في استقطاب «داعش» و «القاعدة» للاهتمام كلّه.
ما الذي نجده في المحصّلة التي تتعدّى تفاصيلها؟
الذين يكرهون أميركا لأنّها تتدخّل، لم يخفّ كرههم، إلاّ أنّ الاتّفاق النوويّ مع إيران مرشّح لأن يشذّب هذا الكره وينظّمه، وقد يعقلنه قليلاً تحت وطأة التجاوب مع مصالح إيران وربّما إملاءاتها على زبائنها.
والذين يكرهون أميركا لأنّها لا تتدخّل، لم يخفّ كرههم أيضاً، إلاّ أنّ روسيا وإيران باتتا تحتلاّن، للمرّة الأولى، المرتبة الأولى في كراهيتهم كاسرتين الاحتكار الأميركيّ المديد.
وهكذا تستطيع واشنطن أن تعتبر أنّها لم تخسر شيئاً لأنّه مخسور أصلاً، وأنّ مرتبتها في السلبيّة تراجعت قليلاً. أمّا أميركا، في المقابل، فكأنّها غير معنيّة بمنطقة لا تكفّ عن القول المداور إنّها أتعبتها، وقد انضاف مؤخراً أنها لم تعد مصدراً لتغذية مصالحها. وقد يكون التعويل على القوّة الناعمة، كما في خطاب أوباما الأخير، التفافاً على الحسابات الصارمة للصداقة والعداوة المبنيّتين على التدخّل العسكريّ. فوق هذا، تقول واشنطن بأكثر من لسان إنّها وحدها صديقة الأكراد، لأنّ الأكراد وحدهم أصدقاؤها الذين يجهرون بهذه الصداقة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة