كشفت الثورة السورية، بما لها وما عليها، مدى العطب الفكري والسياسي والأخلاقي لدى معظم الكيانات السياسية المحسوبة على الحداثة
كشفت الثورة السورية، بما لها وما عليها، مدى العطب الفكري والسياسي والأخلاقي لدى معظم الكيانات السياسية المحسوبة على الحداثة، يسارية أو قومية أو ليبرالية أو علمانية، وضمنها حركات التحرر الوطني، سيما في مجالين:
أولهما، نبذها فكرة الحرية، وتصالحها مع الأنظمة الاستبدادية بدعوى أن الأولوية لمواجهة الإمبريالية (والصهيونية طبعاً)، علماً أنها مواجهة شكلية، وتنطوي على التلاعب والتوظيف.
وثانيهما، حصرها مفهوم الحرية بتحرير الأرض، باعتبارها أن مجتمعاتنا ليست مؤهلة للحرية ولا للديموقراطية، على رغم أنها لم تحرر شبراً، ويأتي في ذلك نظرتها إلى سورية باعتبارها مجرد ساحة، أو قلعة، لا شعب فيها.
فحركات التحرر الوطني، أو حركات المقاومة، إنما كشف الاختبار السوري خواءها القيمي وضحالة أطروحاتها، وهذا يشمل حزب الله، الذي تكشّف كحزب ديني وطائفي وكذراع لإيران، في دفاعه عن نظام الأسد، ومعظم الفصائل الفلسطينية، التي زادت على تآكل دورها ومكانتها وإخفاقاتها، تنكرها لمعاناة السوريين، ومحاباتها النظام الذي طالما اشتغل على تحجيم الحركات الفلسطينية، والعبث بشؤونها، وتوظيفه قضيتها، لتعزيز مكانته وشرعيته إزاء شعبه وعلى الصعيدين العربي والدولي. طبعاً لا أحد يطالب تلك الفصائل بمقاتلة النظام، وإنما فقط عدم التنكّر لشعب سورية، وإظهار المبالاة بالضحايا السوريين، من موقع تعاطف الضحية مع الضحية، بعدم التمظهر بتصريحات داعمة للنظام، أو توجيه الوفود إليه، أو إقامة احتفالات لهذه المناسبة أو تلك.
بيد أن فكرة الخواء تلك ناجمة، أولاً، عن ضعف المبنى الأخلاقي لحركات التحرر الوطني، وهو ما تحدث عنه باقتدار الزميل حسام عيتاني، في مقالته المهمة عن «أخلاق المقاومة وحداثتها» («الحياة» 2/1)، إذ إن قلة الحساسية، وقلة الحصافة السياسية، لا تتعلق بدعوى عدم وجود مدنيين في صفوف مجتمع العدو مثلاً، كأننا نحن الذين نملك القوة، ونمعن فيه قتلاً وتدميراً، وليس العكس. إذ إن ذلك ينعكس، أيضاً، علينا لجهة قلة حساسية تلك الحركات إزاء جرّها شعب فلسطين الى بذل التضحيات من دون حساب، منذ 50 عاماً، بل الذهاب الى حد الاقتتال الجانبي، أكثر من مرة في لبنان، وكما حصل في صيف 2007 في غزة، وفي الانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية، والمشاركة في القصف المدفعي الأعمى لمناطق آهلة بالسكان بدعوى أنها مناطق «انعزاليين».
طبعاً لا شكّ هنا، في أن إسرائيل تمارس القتل والتشريد مع الفلسطينيين وتمنع عنهم حريتهم وتطورهم، فيما الجبهة الأخرى في لبنان لم تكن ملائكية، لكن القصد هنا أن أصحاب القضايا العادلة هم المعنيون بتظهير نضالهم بطريقة عادلة، والتميز بالتفوق الأخلاقي، وعدم التشبه بعدوهم، أي بوحشيته وإجرامه، لأنهم الأضعف، ولأنهم في حاجة الى تعاطف العالم وأيضاً الى تعزيز صدقية قضيتهم وعدالتها. كذلك، فإن افتقاد الحصافة السياسية عند الحركات الفلسطينية يتجلّى في عدم اشتغالها على المجتمع الإسرائيلي، للاستثمار في تناقضاته، على رغم أن مقررات معظم الفصائل والمجلس الوطني أكدت ذلك، وهذا يشمل لا مبالاتها بنمط العمليات المسلحة، أي المكان والزمان والهدف والتداعيات.
ولنتذكر هنا العمليات التفجيرية التي أضرّت بصورة الفلسطينيين، واستنزفتهم، فضلاً عن أنها لم تحسّن مكانتهم في صراعهم ضد عدوهم، الذي استطاع وصم المقاومة بالإرهاب، وإضعاف شرعية المقاومة المسلحة، سواء كانت ضد الجيش والمستوطنين، أو على شكل عمليات تفجيرية ضد المدنيين (وللأسف فقط أخيراً، اعتبرت قيادة «حماس» أن ثمة مدنيين إسرائيليين وأنها لا تستهدفهم بعملياتها أو صواريخها).
أما الفكرة الثانية، فهي تتعلق بنقص حمولات الحرية في إدراكات حركات التحرر الوطني، إذ إنها تحابي النظم الاستبدادية، التي تستمد الدعم المادي والتسليحي والسياسي منها، ما يضرّ بقضيتها أكثر مما يفيدها، كما أن ذلك يؤدي بها ألى تأجير قضيتها وتضحيات شعبها لمصلحة هذه الأنظمة. وفي المحصلة، فقد شهدنا كيف أن الحركة الفلسطينية أضحت منذ زمن في مثابة كيان سياسي، أو في مثابة نظام من الأنظمة، وأنها قصرت مفهوم التحرير على الأرض، الجغرافيا، في حين غاب مفهومها عن حرية البشر كأفراد، وكذوات مستقلة. وطبعاً فإن هذه الحركة غطت ذلك بمفهوم حرية الشعب، وهو مفهوم ضبابي، إذ إن الحرية، كما هو معلوم، معطى فردي أساساً، ويتأسس على معانٍ ثقافية وحقوقية. ولعلّ هذا يفسر اعتبار كل فصيل ذاته، مهما صغر حجمه وبهت دوره، ممثلاً حصرياً لشعب فلسطين، ووصياً عليه، وعلى قضيته، في ظل نظام سياسي يفتقد علاقات التمثيل والديموقراطية، كما يفتقد تقاليد المراجعة والمساءلة والنقد والمحاسبة، يعزز ذلك واقع أن هذه الحركة لا تعتمد في شرعيتها ونفوذها على مجتمعها، بقدر ما تعتمد على علاقاتها العربية والدولية، وعلى الدعم المتأتي من الخارج، ما يحررها إزاء شعبها، ويدعم هيمنتها عليه. كما يفسّر ذلك أن هذه الحركة لم تشتغل على بناء مجتمعات الفلسطينيين، ولا على تعزيز مؤسساتهم الشرعية والجمعية، كما لا مبالاتها بحجم التضحيات والمعاناة التي بذلها هذا الشعب طوال نصف قرن، فالتضحية والمقاومة أمران مقدسان، وخارج نطاق المساءلة والنقد، الأمر الذي يرسخ هيمنة الفصائل.
اللافت أن فكرة القتل والتشريد والإزاحة والتدمير التي طاولت مجتمع السوريين، كانت طاولت مجتمع الفلسطينيين في ما عرف بالنكبة (1948)، ثم في احتلال الضفة والقطاع (1967)، وكل الممارسات التي نجمت عنها حتى اليوم، لكن ما فات العقل السياسي والأخلاقي لدى الفصائل الفلسطينية أن إسرائيل حينما فعلت ذلك لم تكن تفعله بشعبها، وأن النظام السوري الذي تحابيه، بدعوى المقاومة، على رغم أنه لم يطلق رصاصة واحدة من الجولان منذ أربعين عاماً، إنما يقتل في شعبه ويدمر عمرانه ويشرده، وهذه هي المقارنة الحقيقية.
المقارنة الثانية المفجعة التي ذكرها عيتاني هي أن إسرائيل، وفقاً لعقلانيتها وحداثويتها، تستخدم القتل والتشريد والتدمير لأغراض وظيفية، أي لتحقيق أهداف تخدم شعبها، وفق رؤيتها لذاتها كدولة يهودية، في حين أن النظام السوري يفعل ذلك بطريقة عمياء ومجنونة، كأنها غاية في ذاتها، فقط لخدمة سلطته، حتى لو استدعى ذلك هيمنة إيران وروسيا على سورية، وإلا فما تفسير استخدامه البراميل البهيمية المتفجرة ضد السوريين؟!
في الأخير، لا يمكن أن تتحرر قضية فلسطين من استخدامات الأنظمة وتلاعباتها من دون أن تتحرر حركة التحرر من اعتماديتها على الأنظمة الاستبدادية، ومن دون أن تهضم قضية الحرية في فكرها السياسي والأخلاقي، باعتبار أن قضية فلسطين ليست مجرد قطعة أرض وإنما هي معنى للحرية والكرامة والعدالة أيضاً، بحيث يغدو مشروع المقاومة جزءاً من مشروع الحداثة والعقلانية والحرية والتفوق الأخلاقي، لأنه من دون ذلك سيبقى مشروع التحرر الوطني مشروعاً نكوصياً، وهيمنياً، يحابي الاستبداد، ويناهض التحرر، ويعادي الديموقراطية.
ولعل هذا ما قاربه، أيضاً، حازم صاغيّة (12/11)، في مقالته: «مضايا وكل هذا الحقد»، التي تحدث فيها، بمرارة، عن استحواذ أنظمة، على مفهوم الثورة، أو مفهوم المقاومة، كتجارة رابحة، بحيث «يصنّف نظام كالنظام الأسديّ نظاماً «ثوريّاً»، وُلد من رحم «ثورة»، أو كأنْ تُخترع قضيّة كمزارع شبعا... من أجل تبرير بندقيّة «حزب الله»، وهو أيضاً «ثورة» بطريقته». مع اتفاقي مع اعتباره أن «ما فعلته الثورات العربيّة، لا سيّما السوريّة، أنّها أنهت هذا الاستحواذ الكاذب والمتجبّر... الذي جعل «الوحدة والحريّة والاشتراكيّة» و «تحرير فلسطين» النسغ المغذّي لـ «الثورة»... فحين يكون «حزب الله»، حزب الثورة مدفوعةً إلى سويّة المقاومة، هو مُجوّع مضايا ومُحاصرها يكون كتاب الكذب قد أتمّ فصله الأخير».
خلاصةً، لا نحتاج الى مقدسات، فوق مقدساتنا، ولا شي ولا أحد فوق النقد والمساءلة والمحاسبة، لا المقاومة ولا أربابها، لا سيما على ضوء تجاربنا وهزائمنا المريرة والمفجعة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة