هناك من يزكى كراهية الثورة، كأنها عمل غير شرعى تآمر على الأمن وقوض أركانه. وهناك من يعتقد أن التشهير بها من ضمانات تثبيت الدولة
لا يمكن إنكار الحقائق عندما تكون شواهدها ماثلة أمام الجميع.
هناك من يزكى كراهية الثورة، كأنها عمل غير شرعى تآمر على الأمن وقوض أركانه.
وهناك من يعتقد أن التشهير بها من ضمانات تثبيت الدولة واستقرارها.
هذا خطأ فادح فى الحسابات يفضى إلى عزلة الأمن عن مجتمعه، حيث يتوجب أن يحظى بدعمه فى لحظة حرب ضارية مع الإرهاب.
بالقرب من الذكرى الخامسة لثورة «يناير» تبدت حالة تفزيع من احتمالات تظاهرات كبيرة تقلب معادلات القوة والسلطة.
تلك الفرضية لا تستند على أساس يعتد به، فلا «الشباب المسيس» يتبنى أية حملات تعبئة للخروج فى هذا اليوم، ولا جماعة الإخوان فى حال يمكنها من الحشد، ولا القوى الاجتماعية المتضررة من بعض السياسات الحالية بوارد إعلان التمرد خشية الدخول فى مجهول.
مبالغة التفزيع تبدت فى حملة مداهمات واسعة لمساكن وسط العاصمة بلا مبرر مقنع واعتقالات لنشطاء سياسيين باسم «النية فى التظاهر» أو التحريض عليه.
لا توجد فى القانون تهمة بهذا الاسم، فالتظاهر حق دستورى لا منازعة فيه، وهو بذاته ليس جريمة يعاقب عليها القانون.
القوانين تصدر لتنظيم الحق لا مصادرته.
حساب النوايا ينبئ عن عدم ثقة فى مدى ما تتمتع به الدولة من دعم شعبى.
الواثقون فى شعوبهم لا يلجأون إلى إجراءات عشوائية باسم إجهاض «مؤامرة» لا يوجد دليل عليها.
فى الأسابيع الأولى بعد إطاحة جماعة الإخوان من السلطة لعلع الرصاص فى الشوارع وفوق الجسور وحملت أسلحة داخل تظاهرات ورفعت أعلام «القاعدة» فى ميدان رمسيس وأماكن أخرى دون أن يكون هناك أدنى شك أن المواجهة حسمت بفضل غطاء شعبى رفض أية احتمالات لانجراف البلد إلى احتراب أهلى.
الآن الصورة تغيرت تماما.
الغطاء الشعبى تآكل بصورة فادحة والكراهية المتبادلة بين الشعب وأمنه تجاوزت حدود الخطر.
مبالغة التفزيع أفضت إلى رسالة عدم استقرار إلى العالم وتداعياتها سلبية على الاقتصاد واحتمالات ضخ استثمارات جديدة فى شرايينه المتيبسة.
كما أنها أفضت إلى صب زيت جديد على نيران الكراهية المشتعلة.
الكلام المتفلت عن أن (٢٥) يناير هو يوم للشرطة وحدها التى تعرضت لمؤامرة كسرها تحريض بذاته على كراهيتها.
لا يشك وطنى واحد أن وقفة ضباط وجنود الشرطة فى الإسماعيلية أمام قوات الاحتلال البريطانى شبه عزل يوم (٢٥) يناير (١٩٥٢) تستحق كل مجد واحترام.
غير أن الاستهتار بـ«يناير» يسىء لكل معنى وقيمة فى هذا البلد، كأنه تفويض جديد بارتكاب الأخطاء نفسها التى استدعت الثورة.
كأى استهتار من هذا النوع تداعياته لا تحتمل.
الأخطر أنه يفتح أوسع الثغرات أمام جماعات العنف والإرهاب لكى توجه ضربات جديدة للقوات الأمنية.
لم تكن مصادفة استشهاد أكثر من خمسة عشر ضابطا ومجندا فى عمليتين متزامنتين بالعريش والجيزة.
تفاصيل العمليتين الإرهابيتين تبنئ أن الحرب مازالت طويلة ومنهكة وأن شهداء وضحايا آخرين فى صفوف الشرطة سوف يدفعون فواتير دم جديدة دفاعا عن بلادهم.
استفزاز الناس العاديين بالممارسات السلبية، التى تنتهك الكرامة الإنسانية، يضخ رصاصا جديدا فى بنادق الإرهاب.
عندما يتفلت الأمن من مهمته الطبيعية، التى لا يشك عاقل واحد فى أهميتها القصوى لأى مجتمع، فإن العشوائية تصبح عنوانا على اللحظة كلها.
قد يحال متورطون فى التعذيب إلى جهات التحقيق، لكن تظل المعضلة الحقيقية فى بنية الثقافة الأمنية التى تنتج هذا النوع البشع من الجرائم.
وذلك وضع خطر يضرب فى الأمن قبل غيره.
وجه الخلل الرئيسى أن ما هو سياسى تراجع بقسوة وما هو أمنى تغول فى غير ميدانه.
من أسوأ ما قيل فى تبرير تفتيش أعداد هائلة من شقق وسط البلد أنها إجراء احترازى يرافق زيارة الرئيس الصينى للقاهرة.
الكلام بذاته يعطى رسالة سلبية بعدم القدرة على حفظ سلامة الزوار الكبار دون إجراءات أقل ما توصف به أنها عشوائية لا تنم عن تخطيط أو قاعدة معلومات أو إجراءات ملائمة.
كل تزيد فى الإجراءات يسحب من الثقة فى الأمن.
وكل تغول فى الأدوار يقوض هيبة الدولة.
فى زيارة سابقة للرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» لم تتخذ إجراءات مماثلة، رغم أنه أقام فى أحد فنادق حى «جادرن سيتى» على النيل.
أول استنتاج ممكن أن التفتيش العشوائى الواسع له أهداف أخرى، استهدفت إثارة الذعر العام حتى لا يفكر أحد فى النزول إلى الشارع فى مناسبة الثورة.
أخطر الأسئلة: ما الحصاد؟
أسوأ الإجابات: لا شىء غير تعميق فجوة الكراهية مع الأمن.
وثانى استنتاج ممكن استهداف منع أى إصلاح ضرورى فى بنية المؤسسة الأمنية.
بكلام أوضح إرهاب الرئيس.
وهذه لعبة جربت فى كل العهود لفرض تصورات بعينها على الرئاسات تضمن للأمن أن يعمل دون حساب.
فى غياب السياسة تقدم الأمن لملء الفراغ.
تدخل فى الانتخابات النيابية، رشح وزكى ودعم مرشحين دون غيرهم، دون أن يتورط فى تزوير صناديق الاقتراع.
الشق الثانى إيجابى للغاية، وهو من النتائج الأساسية لثورة «يناير» التى يصعب التراجع عنها دون أثمان باهظة.
والشق الأول سلبى بفداحة، فهو مشروع دولة بوليسية تطل برأسها من جديد.
المشروع نفسه ضد الأمن كله.
إذا كان هناك من استوعب درسا ما جرى إبان الثورة فالعودة إلى ما قبلها شبه مستحيل.
عندما تتشابه المقدمات فإن النتائج لابد أن تتقارب.
بعد الثورة مباشرة قال ضباط شرطة كبار: «لقد استوعبنا الدرس».
لم يطل الوقت حتى استعاد الأمن جانبا كبيرا من قوته بدعم شعبى لا يمكن إنكاره.
عند نزوله من جديد إلى الشوارع استقبله المواطنون العاديون بالتصفيق.
كان المشهد موحيا بإمكانية مصالحة تاريخية بين الأمن ومجتمعه تنسخ مرارة الماضى لكنها تبددت سريعا.
هناك من تصور داخل الأجهزة الأمنية أن الانتقام من «يناير» يرفع من منسوب هيبتها دون إدراك أن العكس هو الصحيح تماما.
الهيبة غير القوة.
الأولى، مسألة دور يحظى باحترام شعبه والاحترام غير الخوف.
والثانية، مسألة تغول بنفوذ الدولة على مواطنين عاديين أو نشطاء سياسيين خارج كل قانون وقيمة دستورية وإنسانية.
فى التغول أثقال جديدة على السجل المصرى فى حقوق الإنسان المتخم بالتجاوزات والانتهاكات.
بقدر ما يتوافر من شرعية دستورية تتأكد قوة الدولة بغير ادعاء وتتثبت أركانها بغير اصطناع.
القضية ليست ما قد يحدث بعد يومين فى ذكرى ثورة «يناير» فلن يكون هناك شىء دراماتيكى يستدعى كل هذا التفزيع.
القضية «ما بعد يناير»، فلا يمكن أن تستقر الدولة على عشوائية أو نتقدم إلى المستقبل وسط كل هذه الكراهيات.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة