لكنه كان يعتقد أن مصر لا تحتاج رئيساً توافقياً كما كان يُطرح وقتها، وإنما رئيس تأسيسي، لديه القدرة والفهم
عبَر المرحوم منصور حسن على السياسة في مصر عبوراً سريعاً مرتين، الأولى حين كان في قلب مطبخ الرئيس السادات، قريباً منه وصاعداً في نظام حكمه، ومحاولاً استغلال هذا القرب في ضبط نموذج الدولة المستبدة، وتحويل الانفتاح السياسي الذي قرره السادات في أواخر عهده إلى واقع حقيقي، لكن شبابه وحماسه ودرجة اقترابه وصلاحياته كوزير لشؤون رئاسة الجمهورية، وما أشيع عن تجهيز السادات له لمواقع أعلى، وضعه على "لوحة نيشان" مُستهدَفاً من الدولة التي جاء حسن من خارجها ليحاول تغيير قدر من ثقافتها وأسلوب تعاطيها مع الحكم.
ثم عاد الوزير الشاب كهلاً مع تفجر ثورة 25 يناير، ليمر مروراً آخر، حاول خلاله أن يشارك في ضبط ما كان يصفه بـ"فوران الثورة"، فكان رئيساً للمجلس الاستشاري الذي شكله المجلس العسكري لمعاونته، ثم وجد أنه من المناسب أن يطرح نفسه كمرشح رئاسي.
يومها هاتفته ضمن مكالمات كثيرة بيننا، لأبدي انزعاجاً من خبر ترشحه، ومما تردد عن اختياره لواء متقاعداً نائباً له في حملته الرئاسية ودخل في صدامات مبكرة مع جمهور الثورة، مما قد يؤثر على فرص فوزه أو التوافق عليه كرئيس.
لكنه كان يعتقد أن مصر لا تحتاج رئيساً توافقياً كما كان يُطرح وقتها، وإنما رئيس تأسيسي، لديه القدرة والفهم على أن يميز بين دولة ما قبل يناير والدولة المفترضة المطلوب بناؤها بعد يناير، ويؤسس لهذه الدولة عبر ترسيخ قيم وثقافة مغايرة تماماً للطبيعة السلطوية للدولة التي جُبلت عليها طوال العقود الماضية.
وقتها كنت أختلف معه كثيراً، كان خطابي زاعقاً كأنني متظاهر في ميدان التحرير، وكان هو واعياً لما نطلبه، لكنه يفكر في آليات تحقيقه بحكمة شيخ روحه شابه، وتجربته مع التغيير والاحتكاك بالدولة قائمة، وقتها كان يرى كل الفصائل المحسوبة على الميدان ليس لديها رؤية محددة، لتحويل الثورة من فعل احتجاجي إلى فعل مؤسسي قادر على استثمار ثمار الاحتجاج، وتحويلها إلى سياسات وآليات مستقرة، ومن قبل ذلك بناء رؤية محددة وواقعية وقابلة للتحقق للمستقبل القريب استراتيجية أوسع للمستقبل البعيد.
قال لي إن ثورة 1919كانت مشابهة بشعبيتها، لكنها غادرت الاحتجاج إلى المؤسسة، وانبثق منها حزب الوفد التاريخي كجامع للتيار الرئيسي المؤمن بأهداف هذه الثورة، والذي يستمد نفوذه وقوته من مشروعها، وبالتالي تحمل مسؤولية هذه المشروع حتى ترجمه في اتفاقات مبادئ مع الاحتلال بالاستقلال، ودستور تاريخي في 1923.
لكن ميدان التحرير تفرق شيعاً وقبائل. السياسيون التقليديون الذين تربوا في دولة مبارك، هم الذين تحركوا مؤسسياً لجني مكاسب الثورة، والثوار بقوا في الميدان معتقدين أن السياسة مظاهرة أو اعتصام، لذلك لم يخرج من رحم الميدان ما يمكن أن تقول إنه مؤسسته أو حزبه أو المدافع عن مشروعه.
كان يؤخذ على المحسوبين على الثورة فكرتهم عن الإصلاح والتثوير التي لا تتجاوز الإطاحة بهؤلاء الذين كانوا محسوبين على النظام القديم مهما كانت كفاءتهم، وتثبيت آخرين ولاؤهم للميدان أيضاً مهما كانت كفاءتهم.
بعد الثورة بأسابيع محدودة دخل طلاب كلية الإعلام مدعومين من بعض الأساتذة في موجة احتجاجات لعزل عميد الكلية الدكتور سامي عبد العزيز، كنت أشاهد معه التلفزيون في بيته في زيارة عابرة، وهو يشاهد مناظرة بين أستاذين أحدهما مؤيد لبقاء العميد والآخر معارض لاستمراره، وعدد من المداخلات الهاتفية كلها تشيد بالكفاءة المهنية للرجل لكنها تأخذ عليه موقفه السياسي وانتماءه للحزب الوطني مثل أغلب القيادات الجامعية في ذلك الوقت، سألني: "هل نحتاج في مؤسسة تعليمية إلى سياسي أم مهني؟"، وعاد ليقول لي بتعبير شبابي دارج: "هذه الثورة هتلبس في الحيط إن استمرت في التفكير بهذه الطريقة".
حاول منصور حسن أن ينمي فضيلة "الإنصاف" في التفكير السياسي، والإنصاف سياسياً لا يمكن أبداً أن يكون بتغيير الوجوه بوجوه آخري لتغيير الولاءات فحسب، لكن بتغيير "السيستم" الذي يعتمد على الكفاءة وفقط، ضرب لي أمثلة كثيرة لرؤساء ديمقراطيين استعانوا بعناصر جمهورية في مواقع أمنية مهمة في أمريكا والعكس.
الثورة في ذهنه لم تكن أن أحل محل السابق لأمارس نفس أفعاله، وألعب بذات قواعد لعبه، وعلى ذات "السيستم" السلطوي للدولة.
لذلك لم يجد الناس فوارق حقيقية بين ما قبل يناير وما بعده، وعلى العكس جاءت بعض المقارنات في صالح ما كان قبل يناير، لأنه كما قال منصور حسن "الثورة لبست في حيط" وغاب عنها المشروع الأخلاقي البديل، غرقت في المزايدات وتصفية الحسابات وتصنيف الناس تصنيفات غارقة في الحدة، وتراجع الإنصاف، وضاعت الطاقة في احتجاج متواصل جرى تشجيعه فإذا به أول عوامل تنفير الناس من الثورة.
وتحول الصراع من البحث عن تأسيس جيد لدولة جديدة، تتحدد فيها كل القواعد مسبقاً، إلى صراع شرس على السلطة بكل ما فيه من ألاعيب ودعاية وتجاوز وحدة وتطرف، وتصور بعض القائمين عليها إن مجرد سكنهم في منازل الذين سبقوا هو قمة الإصلاح، وهذا كان الإخفاق الأعظم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة