المانوية كديانة ملفّقة من الزراديشتية والبوذية والمسيحية، تنسب الى رجل فارسى الاصل هو مانو بن فتك
المانوية كديانة ملفّقة من الزراديشتية والبوذية والمسيحية، تنسب الى رجل فارسى الاصل هو مانو بن فتك، وما يعنينا منها فى هذا السياق انها سجينة ثنائية الخير والشرّ، فالعالم بالنسبة لمؤسسها مركب من اصلين قديمين هما النور والظلام، بعد ظهور المانوية بأكثر من الف وثمانمائة عام، تجلت مرة اخرى وكأنها بعثت فى الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية لجورج بوش الابن، الذى اعلن مرارا انه يستلهم قراراته من السماء وبالتحديد عند الفجر، وكانت عبارته الشهيرة من ليس معنا هو ضدنا بالضرورة تدشين لمانوية سياسية تمتد خطورتها باتجاهين، الاتجاه الاول هو الماضى وما شهده من منجزات عقلية ومنطقية، خصوصا فى الجدلية، والبعد الثالث والاتجاه الثانى هو المستقبل لأنها اصبحت مبثوثة فى ثقافة عنصرية وعرقية متعالية، بحيث اعادت الاستشراق الكولونيالى الى ادبياته التى ظن العالم انه ودعها منذ اصدر المستشرق الفرنسى جاك بيرك بيانه الشهير حول موت الاستشراق الكلاسيكي، فالشرق لم يعد بدعة الغرب ومن اختراعه كما قال ادوارد سعيد، كما انه لم يعد جثة مسجاة على طاولة تشريح، انه بشر لهم تاريخ وحضارات واسهامات تستحق العرفان لا النكران، لكن اليمين المتطرف فى امريكا، والدور الذى يلعبه اللوبى الصهيونى فى تعميق تطرفه قفز قرونا الى الوراء، وهدد التكنولوجيا بان تصبح فى خدمة الميثولوجيا والخرافة، واذا كان البعض يُصنّفون حروب امريكا فى القرن الحادى والعشرين على انها حروب ما بعد الحداثة، او حروب استباقية، فإن ما يليق بها من اسماء لم يقترحه المؤرخون بعد، لأنها لم تضع اوزارها حتى الان، فالحرب على العراق شنّت بلا مسوغات قانونية، لهذا حاولت تلفيق الشرعية الدولية بعد اندلاعها، وما بدأه الجنرال كولن باول من اعترافات بالخديعة حين عرضت صور عن اسلحة الدمار الشامل اتضح انها اختراع امريكي، واصله آخرون فى الاعتراف بما اقترفوا ومنهم طونى بلير الذى ركب رأسه لعقد من الزمن ثم عاد ليعترف بما اقترف . نذكر على سبيل المثال ان الاطروحات المضادة للعولمة لم تصدر عن الشرق بمختلف تضاريسه الايديولوجية والسياسية بل جاءت من قلب اوروبا وبالتحديد من فرنسا والمانيا، فبالنسبة لهؤلاء كان فرنسيس فوكوياما قد لوى عنق هيجل كى يلبى مزاعمه حول نعى التاريخ ونهاية الانسان، وكانت اوروبا من خلال ابرز مثقفيها قد توقعت عبارة كالتى اطلقها رامسفيلد وهى القارة العجوز، فاستبقوا هذا الهجاء السياسى بافتضاح ما سعى اليه فوكوياما حين بشّر بنظام عالمى جديد، اما مساهماتنا العربية فى هذا السجال فقد ذهب معظمها فى ردود انشائية تختزل العولمة الى بعد سياسى فقط، وباستثناء ندوة عقدت فى دبى عام 2008 بعنوان من سرق هيجل كان لى شرف المساهمة فى اعدادها ومداخلاتها، وقُدمت فيها اوراق بحث قيّمة لمفكرين عرب منهم د . حسن حنفى ود. مصطفى ماهر وأدونيس د. جلال امين ود . محمد عابد الجابرى ود. عبد الخالق عبد الله و د. فهمى جدعان ومطاع صفدى والطاهر لبيب وآخرون اضافة الى عدد من المثقفين الالمان، فان السجال حول العولمة بقى يراوح بين السياسى والاقتصادى لكن البعد المعرفى بقى فى مكان آخر . ان اعادة انتاج فيلسوف مثل هيجل بمعنى اجراء جراحات منهجية لأفكاره بحيث يصبح ابا روحيا لنظام كونى احادى القطب هى من مقدمات المانوية السياسية كما تجسدت فى الاستراتيجية الامريكية خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن . يضاف الى ذلك عدة قرائن ترجح التجلى السياسى للمانوية منها زلات اللسان المتكررة للرئيس ذاته، كذكره للحروب الصليبية . وما يطرح الان كمرحلة لاحقة لما سمى الاسلام فوبيا وهو منع المسلمين من العيش المتكافىء كمواطنين فى بعض دول الغرب تكمن خطورته فى قابلية هذا الطرح للتصعيد، خصوصا وان مناهج التعليم فى امريكا مهدت له، وصورة المسلم والعربى فيها تتلخص فى اربع صفات، هى الخيانة والغدر والكذب والجريمة، وقد تحدثت عن هذه الظاهرة بالتفصيل فى مقالة نُشرت بمجلة وجهات نظر المصرية بعنوان الاستشراق الامريكى !
ومن المعروف ان اليمين المتطرف فى امريكا وبتحريض من اللوبى الصهيونى والميديا التى يحتكرها حاول استثمار احداث الحادى عشر من ايلول عام 2001 لتكريس صورة العربى والمسلم فى الذاكرة الامريكية واللاوعى ايضا، ومن هؤلاء من وصف ذلك الزلزال بأنه الضارة النافعة، لأنه فى حال توظيفه ايديولوجيا وسياسيا وعرقيا سيكون بمثابة التمهيد لما يعقبه من اطروحات راديكالية ضد العرب والمسلمين وهناك عامل آخر غذى هذه الظاهرة هو التطرف الاسلامى الذى جسّدته جماعات مختلفة الاسماء لكنها ذات مضمون واحد، فهذه الجماعات قدمت خدمة مجانية لليمين المتطرف، واساءت للاسلام والعروبة معا اضعاف ما يمكن ان يفعله اعداء العرب والمسلمين، لأنها الوجه الاخر للعملة ذاتها وهى العملة المانوية التى تصنف البشر الى مؤمنين وكفّار وتنتدب نفسها لتنوب عن السماء فى العقاب والثواب، لهذا فإن بذرة موت مشروعها تكمن فى جذوره والمستقبل كمين لها وليس حليفا كما تحاول ايهام ضحاياها ممن ازدردوا الطّعم وسقطوا فى افخاخها !
المانوية السياسية هى النقيض لمنطق التعايش الانسانى وتبادل الاعتراف بحقوق البشر فى الاعتقاد والتفكير، انها تهديد يفوق التهديد النووى لمنجزات العقل والحضارة خلال قرون كابدت فيها الانسانية شتى صنوف التنكيل والاقصاء المتبادل، وهى بالتأكيد ستفرز فى حال تفاقمها حروبها الاسوأ من اية حروب سبقتها، لأنها تشطر هذا الكوكب الى اصدقاء واعداء فقط والى صالحين وطالحين واخيار واشرار، والحقيقة غير ذلك تماما، فالانسان ليس ملاكا وليس شيطانا ايضا، انه تكوين نفسى وثقافى وعقائدى اضافة الى الغريزي، وهو تكوين مشروط بارادة وقدرة على ما يسميه فرويد التصعيد ، وبالتالى لجم وشكم الحيوان الذى يهجع تحت جلده .
وقد اصبح واضحا ان التطرف ينتج تطرفا وان الغُلاة ليسوا مُتناقضين على الاطلاق، بل يلتقون عند نقطة واحدة لهذا فإن تغذية المانوية السياسية لدى اليمين الامريكى المتطرف باعتباره المايسترو وبالتالى من يعزفون تحت إمرته تتناغم مع التغذية الاخرى للمانوية التى تمارسها جماعات اسلامية فى مختلف القارات، فهى الان اشبه بالاوانى المستطرقة، لأنها لا تختلف الا فى منسوب ومستوى تقنية الترويع والذبح والحدّ من تفاقم هذه المانوية الجديدة التى يُعاد انتاجها سياسيا يتطلب وعى المثقفين فى العالم كله وفى القارات كلها بما قد يؤول اليه كوكبنا الذى اصبح مُفخخا وقابلا للانفجار فينا جميعا .
ومن اقترحوا لجنة دولية تعمل فى مجال الدبلوماسية الوقائية لتدارك الازمات قبل انفجارها، كان عليهم من باب اولى ان يقترحوا حكماء وذوى خبرة يعملون على نقض ما يبشر به الانبياء الكذبة للمانوية الجديدة .
وما قاله روديارد كبلنغ ذات يوم وهو ان الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، يجب ان تعاد صياغته انسانيا فالعالم لم يعد اسير الحقبة الكولونيالية وثقافة الكومنولث التى عبّر عنها كبلنغ، والتعايش المتكافىء وحق الاختلاف هما محاصيل فكرية وانسانية تليق بما بذل البشر من تضحيات خلال عدة ألفيات .
وما قاله هنرى ايكن عن السجال الايديولوجى فى القرن التاسع عشر والذى اصبح مجاله الميدانى والحيوى هو حروب القرن العشرين، قد يتكرر لكن على نحو تراجيدى اذا كانت مانوية العقد الاول من هذا القرن ستفرز حروبها فى ما تبقى منه !!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة