مصر الآن أحوج ما تكون لتصحيح المسار بإعادة الاعتبار إلى ثورة 25 يناير، وهذا لن يحدث دون الانتصار لأهدافها واحترام إرادة الشعب
حقيقتان لا يمكن لعاقل إنكارهما؛ الحقيقة الأولى تقول إن الثورة فعل طبيعي تراكمي غير قابل للافتعال، له أسبابه ومقدماته وله شروطه، وبالذات أن تكون فعلاً شعبياً، فالثورة في أبسط تعريف لها هي إرادة شعبية تملك مشروعاً ثورياً للتغيير الشامل نحو الأفضل، والانتقال بالمجتمع كله من حالة اليأس إلى حالة الرجاء.
أما الحقيقة الثانية فتقول أن الثورة عندما تحدث لا يستطيع أحد أن يقف أمامها ولا تستطيع أي قوة أن تتصدى لها. وبهذا المعنى نستطيع أن نقول أن ما حدث خلال الأيام الماضية في تونس كان إرهاصات لثورة لم تكتمل شروطها بعد، ولكنها ثورة من نوع آخر غير ثورة 2011 التي كانت تهدف إلى إسقاط نظام الاستبداد والفساد وبناء مجتمع الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
أما إرهاصات الثورة التي تتفاعل في تونس الآن فهي دعوة للعدالة الاجتماعية، التي لم تستطع الثورة الديمقراطية تحقيقها.
بعض النشطاء السياسيين حاولوا اختلاق مشابهة بين ثورة تونس الديمقراطية عام 2011 التي تفجرت في مدينة سيدي بوزيد في جنوب البلاد والتي كان مفجرها إقدام الشاب محمد بو عزيزي على إحراق نفسه اعتراضاً على صفعة تلقاها على وجهه من ضابطة شرطة ومنعته من مزاولة عمله كبائع جائل في الشارع، وبين ما اعتبروه ثورة عدالة اجتماعية تصوروا إمكانية حدوثها إثر حادث مشابه هو وفاة أحد العاطلين عن العمل وهو الشاب رضا اليحياوي بصعقة كهربائية بعد تسلق عمود إنارة قرب مقر والي مدينة «القصرين» (وسط البلاد) احتجاجاً على سحب اسمه من قائمة توظيف في القطاع العام.
هؤلاء النشطاء أخطأوا فهم معنى الحدث الثوري، ولم يدركوا استحالة تكرار حدث ثوري لمجرد أنهم يريدون ذلك حتى لو نجحوا في استنساخ بعض مشاهد الأحداث الثورية السابقة.
لكن رغم الفشل في تكرار الثورة فإن ما حدث في تونس هو إنذار قوي وصادم للحكم في تونس بأن البلاد باتت مهيأة لقبول حدث ثوري من نوع آخر، قد يكون أشد عنفاً من ثورة 2011 إذا لم يستطع الحكم احتواء الأحداث بالتفاعل الإيجابي معها وليس اعتماداً على قوات الأمن وحدها.
وما يقال عن تونس، يقال عن مصر.
فالتتابع الثوري بين مصر وتونس، الذي حدث عام 2011 يصعب أن يصبح قانوناً سياسياً، لا لشئ إلا لأن التاريخ لا يعيد نفسه، والأحداث لا تتكرر، وطموح نشطاء سياسيين مصريين لفرض تفجير ثورة في ذكرى ثورة 25 يناير، استناداً إلى أحداث تونس الجديدة، هو تكرار للخطأ في الحسابات والخطأ في الإدراك، لنفس الأسباب التي أحبطت طموحات النشطاء التونسيين في ثورة جديدة لمجرد أنهم يريدون ذلك، أو أنهم غير راضين عن الأسلوب الذي تحكم به تونس بعد ثورة 2011، كما أن خطأ استثناء مصر من التعرض لأحداث احتجاجية شعبية لدوافع اجتماعية على غرار ما حدث في تونس يعيدنا إلى خطأ أفدح وهو تجاهل معنى تراكم الإرهاصات والاحتجاجات الشعبية باعتبارها مقدمات تنبئ بأن الثورة لم تعد مستبعدة إذا لم يتم التدخل لإصلاح الأخطاء التي حدثت في مصر عقب ثورة 25 يناير، وهي بالمناسبة أخطاء فادحة وصلت إلى درجة تجريم هذه الثورة، واعتبارها، من جانب قوى متنفذة، بأنها إما مؤامرة خارجية، وإما انقلاب غير مشروع يجب إدانته ومحاكمته، وامتدت إلى عودة النظام السابق برموزه وسياساته وتحالفاته الداخلية والخارجية ليكون شريكاً في الحكم والانحراف به في مسارات تعيد فرض النظام القديم مرة أخرى في تحول ضد ثورة 25 يناير هذا لا يعني نفي أي نيات سيئة عند الإخوان أو شركائهم من التنظيمات الإرهابية، لكن كم الترويع الذي حدث على مدى أكثر من شهر كامل، والتحذيرات الرسمية للشعب من النزول إلى الشوارع للاحتفال بالثورة خشية أن يستغل الإخوان التجمعات الشعبية الاحتفالية لفرض مخططاتهم الإجرامية، تجاوز هدف الحماية من مخططات إخوانية مزعومة أو مؤكدة، إلى محاولة البعض إبعاد الشعب عن الاحتفال بثورته، كخطوة لابد منها للتخلص من الثورة نفسها ضمن محاولة تصوير الثورة على أنها «ثورة الإخوان» وليست ثورة الشعب، ودفع الشعب تدريجياً للتبرؤ من ثورته، والترويج لمقولة أن ثورة 30 يونيو قامت ليس فقط لإسقاط حكم الإخوان، ولكن أيضاً لإسقاط ثورة 25 يناير، وبالتالي فإن الثورة هي ثورة 30 يونيو فقط، أما 25 يناير فهي انقلاب إخواني الشعب برئ منه، أو أن الشعب جرى التغرير به من الإخوان، ومن نشطاء من الشباب موالين للإخوان أو مأجورين وعملاء لقوى وأطراف خارجية.
الدافع الأساسي وراء كل ذلك هدف مزدوج: ثأر البعض من ثورة 25 يناير من ناحية، والانقلاب من ناحية أخرى على الأهداف التي قامت الثورة من أجلها والعودة بنظام حكم مبارك ليحكم مصر، ولعل المتأمل في خريطة الانتماءات السياسية للبرلمان الجديد في مقدوره أن يكتشف أن أعداداً كبيرة من المنتسبين للنظام البائد قد عادوا إلى البرلمان منتخبين، أي بشرعية ديمقراطية، هدفها إعادة الاعتبار لحكم مبارك وسياساته، وبعض هؤلاء لم يترددوا في الإعلان الصريح أنهم لا يعترفون بثورة 25 يناير ويعتبرونها مؤامرة خارجية يجب إدانتها والتخلص منها.
يحدث هذا كله ومصر معرضة لخطر التهديد الإرهابي الذي يستلزم وحدة الشعب وتماسكه مع نظام الحكم حتى تستطيع مصر أن تتصدى لهذا الخطر. فالأوطان تهزم من الداخل قبل أن تهزم من الخارج، وعدم الوعي بمعاناة الناس وعدم احترام مطالب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وإنهاء كل أشكال التمييز قنابل موقوتة قادرة على الانفجار في الأوقات المناسبة، وقادرة على أن تفرض انتفاضات وإرهاصات على شاكلة ما حدث في تونس وما قد يحدث في بلاد أخرى كثيرة يمكن أن تتراكم مع الزمن لتؤسس لدوافع ثورة حقيقية لا يستطيع أحد أن يقف أمام مسار تياراتها الهادرة.
مصر الآن أحوج ما تكون لتصحيح المسار بإعادة الاعتبار إلى ثورة 25 يناير، وهذا لن يحدث دون الانتصار لأهدافها واحترام إرادة الشعب في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ودون القيام بتضييق الفجوة بين ما يتضمنه الدستور من قيم ومبادئ وبين الواقع الفعلي الذي يمارس، ودون البدء بـ «ثورة إصلاح قيمي» داخل مؤسسات الحكم الكبرى خاصة في الأجهزة الرقابية والقضاء والأجهزة الأمنية هدفها قيادة ثورة لمحاربة الفساد داخل هذه الأجهزة الثلاثة الكبرى أولاً، ومنها إلى كل مؤسسات الدولة، ودون أن تتضافر جهود السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق العدالة الاجتماعية بمفاهيمها الشاملة التي تتجاوز الحدود الضيقة للتقريب بين الدخول إلى تكافؤ الفرص بين كل المصريين والعدالة في الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وإسكان ومواصلات وغيرها من الخدمات التي تستهدف تمكين المصريين من كل حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وقبلها حقوقهم السياسية، حتى نستطيع أن ننتصر لثورة 25 يناير ونكون بمنأى عن تكرار مشاهد إرهاصات الثورة الاجتماعية في تونس.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة