سرور الحسيني.. عراقية حاصرت الموت بالموصل 5 أعوام
وعد قدمته للجنود بالعودة للمساعدة في إسعاف وإنقاذ جرحى الحرب، مقابل معاونتهم لها في دفن جثمان شقيقتها بالجانب الأيسر بالموصل.
لا تزال ذاكرة سرور الحسيني محتفظة بتفاصيل أول يوم سقطت فيه الموصل بقبضة "داعش"، وفق ما روته لـ"العين الإخبارية".
تبدلت الأوضاع في المدينة العراقية بين ليلة وضحاها، وحلت أصوات الرصاص بديلة لنغمات الموسيقى، وساد اليأس والخوف أركان المنازل المهجورة من سكانها.
وفي اللحظات الأولى لسيطرة داعش على المدينة في 14 يونيو/حزيران 2014، توغلت رائحة الموت في الشوارع والأزقة. وبدون سابق إنذار حملت الفتاة العراقية "سرور الحسيني" على عاتقها مهمة محاصرة الموت في الموصل رغم صغر سنها.
الظلام يخيم
حياة هادئة عاشتها مع أسرتها الصغيرة والدها ووالدتها وأشقائها قبل منتصف 2014. وكانت اهتمامات سرور منحصرة بين دراستها للتمريض وأوقات التنزه مع عائلتها، ولم تتوقع يوما ما أن تأخذ حياتها مسارا مختلفا مليئا بزخات الرصاص وأصوات الانفجارات.
"منذ احتلال داعش للموصل، بُث اليأس في نفوسنا وتحولت الموصل لمدينة حزينة، وأصبح داعش متحكما في ملابسنا وطبيعة حياتنا وأفكارنا، لذا قررت البقاء في المنزل طوال فترة احتلال المدينة" هكذا سردت سرور الحسيني لـ"العين الإخبارية" اللحظات الأولى التي خيم فيه الظلام على الموصل.
وفرض داعش على النساء " النقاب" زيا موحدا، وعين "ديوان الحسبة" لتفحص ثياب الفتيات أثناء خروجهن من المنازل، لتطبيق عقوبة الجلد على من يخالف أوامرهم، إضافة لتحريم مساحيق التجميل وإجبار النساء على الزواج من رجال التنظيم الإرهابي.
وحشية التنظيم الإرهابي فاقت توقعات كل سكان الموصل، ما أجبر سرور التي لم يتجاوز عمرها الـ20 عاما وقتها، على البقاء في المنزل والاكتفاء بمتابعة الأحداث من خلف شرفتها، مستندة إلى قراءة الكتب كوسيلة لمقاومة الخوف الذي خيم على منزلها منذ ظهور كابوس داعش.
كان المدنيون أمام خيارين لا ثالث لهما، النزوح ومجابهة مصير مجهول، أو البقاء في المدينة وسط النيران، أصرت سرور الحسيني وأسرتها على الخيار الثاني. عشق والدها الجم للموصل ورفضهم لملاقاة معاناة النزوح، كان السر وراء بقائهم بالمدينة رغم ما شهدته من أهوال الموت.
وبعد تعطل الدراسة بجامعات مدارس الموصل، اضطرت سرور إلى الذهاب لكركوك لأداء الامتحانات، لتعود مرة أخرى إلى منزلها بالجانب الأيمن للموصل.
وأعلن الجيش العراقي بقيادة التحالف الدولي، الحرب ضد داعش شرق الموصل، في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول 2016. واستمرت المرحلة الأولى من التحرير نحو 4 أشهر متتالية.
شبح الموت
ولم يدر بخلد سرور طوال فترة سيطرة داعش على الموصل، أن سهام الموت تطول أسرتها، وبعد تحرير الجانب الأيسر من الموصل في 23 يناير/كانون الثاني 2017، انتقلت سرور بعد زواجها إلى هذا الجانب، وانقطعت أخبار أسرتها تماما على مدار 6 أيام، لتجازف الفتاة بحياتها بالعودة إلى الجانب الأيمن المشتعل للبحث عنهم.
ساعات مريرة تثير الذعر والهلع في قلب الفتاة العشرينية، بعد انقطاع كافة وسائل التواصل مع أهلها. وطوال رحلة العودة إلى الجانب المشتعل من المعركة، حاولت سرور طمأنة قلبها، لكن لم تعلم أن معركتها في الحياة قد بدأت.
بنبرة صوت مليئة بآلام الفراق، تسترجع سرور هذا اليوم المفجع: " عدت أبحث عن منزلي وأهلي، ولم أجد سوى ركام، حاولت تدارك الموقف حينما تأكدت أني لن أستطيع رؤية شقيقتي مرة أخرى، قصف الطيران منزلنا بالخطأ بعد اختباء داعشي فوق أحد المنازل القريبة، وقتلت أختي وأصيب بقية أسرتي جروح بالغة".
لم تمنح الفتاة الصغيرة نفسها، فرصة البكاء والحزن على شقيقتها. أيام ثقيلة مرت عليها، بداية من مخاطر رحلة العودة لإنقاذ أسرتها، وتلقيها خبرة وفاة شقيقتها، وصولا إلى معاناة رحلة علاج ذويها، وإجراءات دفن جثمان أختها بالجانب الأيسر.
مأساة سرور لم تقف عند فقدان أختها، فتهدم المستشفيات وتزايدت أعداد الجرحى والقتلى طوال الحرب، صعب الأمر عليها أن تبقى بالجانب الأيمن، وتوسلت لجنود عراقيين أن يسمحوا لها بنقل الأسرة للجانب الآخر لتلقي العلاج، ودفن جثمان شقيقتها هناك رغم أن القواعد ترفض دفن جثامين الجانب الأيمن في الأيسر.
بداية المعركة
من هنا بدأت رحلة سرور في مداحرة الموت، بعد أن قدمت وعدا للجنود بالعودة للمساعدة في إسعاف وإنقاذ جرحى الحرب، مقابل معاونتهم لها في دفن جثمان شقيقتها بالجانب الأيسر.
رهبة الحرب لم تمنع سرور من تنفيذ وعدها، ومع مرور الوقت تحول التطوع لإسعاف جرحى المعارك، إلى المهمة الرئيسية في حياتها على مدار 5 أشهر من اكتمال تحرير الجانب الأيمن بالموصل، وأصبح إنقاذ الأرواح من الموت وسيلة الفتاة العراقية للانتقام من داعش بعد وفاة شقيقتها.
وعلى بعد مسافات قصيرة، شاهدت سرور شبح الموت يزهق أرواح الصغار والنساء دون أدنى ذنب، وتتذكر آخر عملية إنقاذ قبل التحرير قائلة: "بالقرب من منزلنا اشتد القصف، وتمكنت من إنقاذ حياة فتاة صغيرة بإخراج رصاصة من ظهرها".
ولم تكتفِ سرور بهذا الدور فقط، وبدأت في تدريب 400 مدني بالقيارة جنوب الموصل وغربها على الإسعافات الأولية، كبداية لتحجيم الموت بالقرى والمدن على أطراف محافظة نينوى.
مدينة أنقاض
مدينة أشباح تكتظ شوارعها بالجثث وركام الحرب، كانت هذه المشاهد الأولى للبلدة القديمة بالموصل، عقب تحريرها بالكامل، وبعد أن وضعت سرور قداميها داخل المنطقة، رغبة في التقاط صورا للمدينة القديمة بعد داعش، تجدد الشعور لديها بأن المهمة لم تنته، فما زالت ظلال الموت مستقرة بجنبات المدينة، ورائحته تزكم الأنوف.
"مدينتي مهددة بالوباء من كثرة الجثث"، عبارة رددتها سرور بعد أن جابت المدينة. وعلى الفور قررت الفتاة الصغيرة تشكيل فريق تطوعي من 5 أشخاص لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، وفي غضون أسبوع توسع الفريق إلى 30 متطوعا.
مشاهد عالقة في ذهن سرور لا تُمحى بسهولة، وفي حديثها مع "العين الإخبارية"، استرجعت الذكريات المؤلمة قائلة: "قررنا إزالة ملامح الموت من المدينة، وانتشال الجثث رغم قسوة المشاهدة وبشاعة الرائحة وخطورة بقاء جثث مفخخة وألغام منتشرة في كافة الأنحاء. توجهنا إلى الجهات الرسمية من البلدية والطب العدلي لاستخراج التصريحات للبدء في مهمة انتشال الجثث. وفي غضون 5 أشهر استخرجنا نحو 1000 جثة".
وأصبحت هذه المهمة إدمانا لها، وتوسعت في أعمال إنسانية أخرى مثل تنظيف متحف النسيج بالموصل لإعادة افتتاحه، وتأهيل المستشفيات لافتقادها أبسط التجهيزات والإسعافات والأدوية، ليتوسع الفريق إلى 40 متطوعا، إضافة لتأسيس فريق جديد في ديالي.
وفي طريق وعر غير ممهد مليء بمخلفات الحرب، تعرض الفريق التطوعي بقيادة سرور، لمخاطر عدة بداية من التعرض لبعض القذائف أو إصابات خلال المهمة، وصولا إلى قسوة المشاهد.
"بين طيات المهمة كانت حياتنا على المحك" عبارة وصفت بها قائدة الفريق، حجم مخاطر انتشال الجثث، قائلة: " أثناء نقل الجثث تعرض بعض المتطوعين إلى إصابات، نظرا لتهدم المنازل والطرق، أذهلتني الجثث المفخخة التي هددت حياتنا، وفي يوما ما دخلنا إلى غرفة مكدسة بحوالي 100 جثة مقتولة بطلقات بالرأس، رهبة المشهد لا توصف".
وفي طريقها، عثرت الفتاة الصغيرة وفريقها على جثث أطفال ونساء مترامية في الطرق، لقوا حتفهم أثناء رحلة النزوح، ما جعل انتشال الجثث مهمة مليئة بالحزن والهلع.
ويبدو أن الموت عرف طريقه إلى أسرة سرور، وبعد 8 أشهر نجحت في استخراج شهادة وفاة شقيقتها، وفي نفس الليلة فارق والدها الحياة حزنا على ابنته، ما أدى لزيادة إصرارها بالمعركة.
مواجهة جديدة
تعقد الأمر بعد تسليط وسائل الإعلام المحلي والأجنبي الضوء على المهمة، تفاجأت سرور الحسيني باتهامات موجهة من محافظ نينوى السابق نوف العاكوب وقتها، تشير إلى قيامها بانتشال الجثث دون تصاريح رسمية، ما أدى لتحريك دعوى قضائية ضدها.
معركة الفتاة العراقية أخذت منحى جديدا هذه المرة، وتقول: "رد الفعل الرسمي وقتها صدمني للغاية، ما زاد إصراراي لإثبات حقي، ورغم تقديم الموافقات الرسمية في أول جلسات المحاكمة لم يعترف بها، لذا قررت تحويل القضية قضية رأي عام، ووجدت دعم من جمعيات حقوق الإنسان وفرق الإنقاذ ووسائل الإعلام".
وطوال حياتها لم تقبل هذه الفتاة الانكسار، وحصلت سرور الحسيني في 12 مايو/أيار الجاري على براءة وإفراج نهائي بقرار من القضاء العراقي.
وتطمح سرور لأنْ تعود الموصل كما كانت بجهود الفرق التطوعية التي تساعد في إعادة بناء المدينة، وترمم ما تبقى من ذكريات لسكان المدينة العراقية.
aXA6IDEzLjU5LjEzNC42NSA=
جزيرة ام اند امز