إن مهام الدولة وواجباتها تُعَدُّ محورًا أصيلًا للنظر والتحليل السياسي، إن لم نقل إنها تمثِّل جوهر موضوع علم السياسة
إن مهام الدولة وواجباتها تُعَدُّ محورًا أصيلًا للنظر والتحليل السياسي، إن لم نقل إنها تمثِّل جوهر موضوع علم السياسة، فمفهوم الدولة لا يتعرض له الباحثون لذاته، وإنما يتعرضون له لكونه وسيلة لتحقيق مقاصد أفراد الأمة ومجموعها؛ ومن ثَمَّ فإن نظام الدولة بنماذجه المتعددة يُحدد إطاره العام مجموعة من العقائد والإيديولوجيات والقيم، وهى بالأصالة السمات والمظاهر التى تُشَكِّل هوية ذلك الاجتماع البشرى الذى تحكمه الدولة، سعيًا إلى تحقيق مقاصده وأهدافه.
غير أن الدولة فى الفقه الإسلامى تتحدد واجباتها ومهامها وفق المقاصد والضوابط الشرعيَّة، وهى تدور بين ما هو ثابت وما هو متغير، وعبارة «الثابت والمتغير أو القطعى والظني» فى الشرع يقصد بها إجمالا التفريق بين مواضع الإجماع والنصوص القاطعة التى لا يصح الاختلاف فيها، وبين موارد الاجتهاد التى لا يضيق الشرع فيها على المخالف لظنية مداركها ثبوتا أو دلالة.
بيد أن دائرة الثابت محدودة ومحصورة، ودائرة المتغير واسعة وغير محصورة، ومن خصائص المتغيرات ألا يضيق فيها على المخالف، ولا يخرج المختلفون فيها عن دائرة الإسلام، بل كانت ولا تزال وستظل من أعظم أسباب السعة والتيسير فى هذا الدين الحنيف، وأن المحذور ليس فى تفاوت اجتهادات أهل العلم فيها، وإنما فى تشرذم الناس وتباغضهم بسببها. وهى التى تُعَدُّ سمة أصيلة فى استيعاب هذا الدين لكل المستجدات، ومن ثَمَّ الدلالة على صلاحيته لكل زمان ومكان .
ولقد بيَّن علماء المسلمين وظائف الدولة فى سياق كلامهم على واجبات الإمام باعتبار أن سلطات الدولة وقتئذ كانت مركزية، يقول أبو الحسن الأشعرى فى (مقالات الأشعرى ص 188- 189): «خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم فى باب القيام مقامه من حيث إنفاذ الأحكام، وإقامة الحدود، وجباية الخراج، وحفظ البيضة، ونصرة المظلوم، والقبض على أيدى الظالمين، من غير أن يكون إليه ابتداء شرائع وتغيير شرع».
وبذلك يؤسس أهل السنة والجماعة أن مهمة الإمام (رئيس الدولة) هى مهمة إدارية، تتمثل فى تنظيم المجتمع وصون أمنه الداخلى والخارجي.
على أننا نجد ابن خلدون يقدم رؤية متكاملة وواقعية تشرح مضمون مهام الدولة وواجباتها، مستخدمًا مسمى «الخطط» للدلالة عليها، وقد قسمها إلى نوعين: أولهما: الخطط الخلافية، وثانيهما: الخطط السلطانية، كما قسم أنواع الحكم باعتبار المهمة التى تنشد الحكومة تحقيقها إلى ثلاثة أنواع، ينظر (المقدمة ص 122- 140) . وغنيٌّ عن القول إنه لا يستطيع المرء إنكار أن الدولة مرت عبر التاريخ بمراحل عدة، وسارت تدريجيًّا فى التطوُّر حتى وصلت إلى ما هى عليه فى العصر الحديث، حيث تؤدى الدولة وظائفها وواجباتها من خلال مؤسسات متعددة ذات اختصاصات متنوعة، لكن نود أن نلفت الأنظار إلى أن نواة هذا التمدن والتحضر فى مهام الدولة وواجباتها قد أسس له النبى صلى الله عليه وسلم فى السنوات العشر التى قضاها فى المدينة المنورة بعد هجرته الشريفة تأسيسًا عبقريًّا، أسهم فى نقل العرب من أحوال السذاجة والبداوة إلى المدنية والحضارة وقيادة العالم.
والأصل فى ذلك ما ذكره الإمام القرافى رحمه الله تعالى فى الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهى التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة، حيث قال:»ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا؛ فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخري، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها فى الشريعة» (الفروق 1/ 206).
وبذلك تظهر أبرز سمات الدولة وأهمها : ممارسة السيادة باعتبار الدولة هى القوة العليا غير المقيدة فى إطار حدودها، وأن لها إصدار القرارات العامة المنظمة لشؤون أفرادها والمحافظة على أمنهم على مختلف أصعدته: القومى والفكرى والغذائى والاجتماعى والاقتصادي، وأنها وحدها هى التى تمتلك حمل الأفراد على الالتزام بالقوانين ومعاقبة المخالفين من خلال المؤسسات المختلفة. ولا ريب أن ذلك كان بمثابة إطار عام متكامل ارتكز عليه النظام الدولى فى العصر الحديث عند وضعه للدستور الذى يُعَدُّ وثيقة التعريف بالدولة، حيث هو المنوط به بيان وتفصيل هويتها، ووظائفها وواجباتها تجاه الوطن وتجاه مؤسساته وتجاه أفراده على تنوعهم، وكذا بيان سمات وهوية المجتمع ومقوماته الأساسية.
وفى هذا السياق نلفت إلى أن الحركة الدستورية التى نشأت فى مصر فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى كانت على يد علماء الأزهر الشريف، وهى بلا نزاع علامة مضيئة فى تاريخ الأزهر الحافل بالوعى والصدق السياسى وحمل هموم الأمة والقيام بواجب الوقت.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة