لقد طاردنى سؤال حائر: هل يمكن ان تتحقق العدالة بلا حرية, وهل يمكن ان يشعر بالكرامة من لا يجد عملا او سكنا أو أملا.
استقبلت السماء ذكرى ثورة يناير بسيول من الأمطار التى تدفقت فى المدن والشوارع المصرية لعلها تطهر البشر قبل الأماكن, والنفوس قبل الطرقات, وتعيد لنا شيئا من الإحساس بالأمان بعد ان بالغ الجميع فى انتظار الكوارث فى هذا اليوم الذى طاردناه كثيرا ظلما وعدوانا, حتى اننى خشيت فى لحظة من اللحظات ان يطالب البعض بحذف رقم 25 من أجندة أيام المصريين.. لا ادرى لماذا تبرأنا من يوم من أعظم أيام المجد فى حياتنا؟!
رغم الصخب والضجيج الذى صاحب ذكرى ثورة يناير هذا العام دفاعا وهجوما إلا اننى توقفت كثيراً عند ثلاثية المطالب التى حملها شباب مصر فى هذا اليوم الذى اختلفنا كثيرا حوله ما بين التتويج والمؤامرة, وما بين الوطنية والعمالة.. ان أعظم ما سيبقى من هذه الثورة بعد دماء شهدائها هو مطالبها التى تجسدت فى العدل والحرية والكرامة.
لقد طاردنى سؤال حائر: هل يمكن ان تتحقق العدالة بلا حرية, وهل يمكن ان يشعر بالكرامة من لا يجد عملا او سكنا أو أملا.. وحين تغيب العدالة ماذا يبقى للإنسان فى هذه الحياة أمام مجتمع ظالم.. وإذا عجزت اى حكومة فى العالم ان تحقق مطالب الحياة الأساسية للبشر فما هى مقومات وجودها أو استمرارها?!.. بعد خمس سنوات من قيام ثورة يناير هل يمكن ان يدعى احد ان المجتمع المصرى أصبح أكثر عدالة, ام ان هذا الشبح قسم أبناء الوطن الواحد إلى شراذم مازالت تحتل قائمة الأزمات فى مصر, واذا أقصينا بعض الوقت قضايا الحرية وهى توأم العدالة أمام ظروف الأمن والإرهاب والاستقرار فبأى الأسباب والمبررات يمكن ان نؤجل قضية العدالة وهى تزداد كل يوم بحيث أصبحت شبحا يطارد الأغلبية الساحقة من أبناء هذا الشعب?.. لقد نجح العهد السابق فى تقسيم مصر «الشعب» الى جزئيات وشراذم إنسانية واجتماعية، ونجح الإخوان فى تقسيم المصريين إلى مؤمنين وكفار، وإذا شاهدت مصر من بعيد سوف تتعجب من هذه الفصائل الإنسانية التى تقطعت كل جسور التواصل بينها.. ان اخطر مهمة أمام الدولة المصرية الآن ان تقف بحسم أمام قضية العدالة الاجتماعية لأنها اخطر ما يهدد مصر وطنا وشعبا وكيانا.
لقد خضعت مصر إلى عملية توريث فادحة عبر سنوات طويلة تم فيها استئصال فئات اجتماعية كاملة تم إبعادها قصراً عن المشاركة والفعل والدور والمسئولية، وتحولت إلى كيانات عشوائية غريبة فى بناء اجتماعى متهالك.. ولك أن تتصور مجتمعا ووطنا تم توريثه بهذه الوحشية :
> نحن أمام عملية توريث فادحة لثروة الوطن المصرى تجسدت فى صورة أنواع جديدة من الثروات التى حصل عليها البعض بلا جهد أو كفاءة أو عمل وكانت نتيجة علاقات مشبوهة مع السلطة، بحيث انقسم المجتمع المصرى إلى أصحاب الملايين والبلايين بينما هناك مجتمع كامل يعانى الفقر والحرمان.. فى هذا السياق تم بيع أصول الدولة المصرية ـ وهى حق للجميع ـ إلى عدد من الأشخاص والعائلات، ولا أحد يعرف كيف بيعت هذه الأصول وفيها الأراضى والمصانع والعقارات ومضاربات البورصة والأسهم الخفية والمعلنة، وقد ترتب على ذلك انقسامات وتبعات أخرى قسمت المجتمع إلى سكان للعشوائيات وسكان للمنتجعات وأهملت الحكومات المتعاقبة قضية الإسكان ودورها الاجتماعى فيه بل إنها تحولت إلى سمسار مبان وعقارات.. هذه التقسيمات الاجتماعية والمالية جعلت أجيالا جديدة ترث ثروة الآباء، وأجيالا أخرى ترث الفقر عن الآباء.
> لا احد يعلم مساحة الأراضى التى وزعتها الدولة خلال أربعين عاما من تجارة العقارات، ولكن المؤكد ان ثمنها يتجاوز آلاف الملايين من الجنيهات، وهذه الأراضى كانت كفيلة بأن تخلق طبقة اجتماعية جديدة ورثت كل شئ بلا جهد فقد كان يكفى ان تحصل على توقيع وزير أو محافظ بامتلاك قطعة من الارض لتصبح بها من أصحاب الملايين، وقد انتقلت هذه الأراضى إلى جيل جديد من الورثة أكد التشكيل الطبقى الجديد للمجتمع المصرى.
> فى نفس السياق الذى تم به توريث الثروة والأرض والأصول كان توريث الوظائف يسير فى نفس الاتجاه، فقد أصبح من القواعد السارية فى مؤسسات الدولة ان يرث الابن وظيفة أبيه، وجاء جيل جديد من الورثة فى كل الوظائف الحساسة ومنها القضاء والإعلام والجامعات والنقابات المهنية وحتى الأندية الرياضية والأجهزة السيادية، وانتقلت التقسيمات أيضا إلى التعليم، حيث وجدنا التعليم الحكومى والاستثمارى والأجنبى وكان من السهل ان يجتمع أبناء الفقراء أمام مكتب التنسيق وان نجد على الجانب الآخر تعليما انجليزيا وكنديا وأستراليا وروسيا وفرنسيا والمانيا وامريكى وإيطاليا ويابانيا، وهنا ظهرت أمامنا أجيال مختلطة فى ثقافتها تعانى ضعف الانتماء وكساد اللغة العربية وشحوب الجانب الدينى.. ان التعليم المختلط أصبح الآن من اخطر الأزمات التى تواجهها الأجيال الجديدة، وهى بعيدة عن لغتها وتاريخها وانتماءاتها وتقاليد شعبها.
> امام ميراث المال والأصول وتكدس الثروات والمنتجعات وخلل العملية التعليمية ظهرت سلوكيات جديدة على الواقع المصرى تجسدت فى مجموعة ظواهر أهمها الإحساس بالطبقية والتعالى على المجتمع والسفه فى الإنفاق والاتجاه إلى سلوكيات خاطئة مثل المخدرات والجنس والتحرش، وقبل هذا كله تراجع منظومة المحرمات فى المجتمع، حين استحل البعض المال العام على اعتبار انه حق للبعض دون عقاب أو حساب، ولعل هذا مهد لسلوكيات شاذة مثل السرقة واللصوصية حين وجدت لها مكانا فى طبقات اجتماعية استحلت لنفسها كل شىء.. كان توريث السلوكيات الشاذة من أسوأ ظواهر الخلل فى سلوكيات الشارع المصرى، فقد ظهرت أجيال جديدة لا تعرف شيئا عن تقاليد وأعراف الإنسان المصرى القديم بأخلاقه وترفعه وحلت مكانها أساليب جديدة فى الانحطشاط الاخلاقى ممثلا فى قبول الحرام ونهب أموال الشعب..
> وسط هذا الركام السلوكى والأخلاقى كان الزواج الباطل بين سلطة المال ممثلة فى الطبقات الجديدة، وسلطة القرار ممثلة فى المؤسسات المسئولة عن إدارة شئون المجتمع، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوز إلى زواج المال بالمال حيث تكونت تكتلات اقتصادية على أسس من العلاقات الأسرية التى قامت على المال والزواج حتى وان انتهى بالطلاق.
فى تقديرى ان هذه المخلفات الشاذة هى أسوأ ما تركت سنوات النهب فى مصر التى قسمت الشعب إلى شراذم مالية واجتماعية وإنسانية، وفقد التلاحم والتواصل، وقد ترك ذلك آثاراً سيئة أمام الأنانية الشديدة التى اتسمت بها سلوكيات الطبقات الغنية وتعاليها على بقية أبناء الشعب وغياب دورها تماما على المستوى الاجتماعى، بحيث انفصلت عن واقع مصر الإنسانى فى أماكن بعيدة وطموحات ابعد وعلاقات إنسانية اختصرت العالم كله فى أسرة أو صداقة أو تجمعات مريبة حول صفقات أو مصالح مازلت اعتقد ان المواجهة الحقيقية بين الدولة وهذا الواقع الاجتماعى البغيض والمختل ان تسعى إلى تحقيق قدر من العدالة بين أبناء الوطن الواحد، دون ان تلجأ إلى إجراءات او قرارات تعسفية لحماية الطبقات الفقيرة من جشع الكبار ولكن على هذه الطبقة الجديدة الدخيلة على النسيج الاجتماعى المصرى ان تفيق من غفوتها وتمارس دورها فى تحقيق التوازن بين من ملكوا كل شئ بالباطل ومن يستحقون كل شئ بالعدل.
ان سلطة القرار هى التى قامت بتوريث مصر بكل ما فيها لمجموعة من البشر مالا وأصولا وأهمية ودوراً، وهى القادرة على ان تعيد الحقوق لأصحابها من خلال منظومة عدل تحميها الدولة وتسعى لتحقيقها، لأن التقسيمات الطبقية التى شهدها المجتمع المصرى أصبحت تهدد جميع مقوماته فى البناء والتقدم.
إن هذا يتطلب تصحيحا للمسار من خلال إجراءات وسياسات تراعى فيها القوى الاجتماعية التى تهمشت سنوات طويلة بحيث أصبحت منظومة الفقر تجمع الجزء الأكبر من سكان مصر:
> مطلوب ان يستعيد المجتمع قيمة العمل والجهد والكفاءة والنجاح، وان تسقط من قاموس حياتنا منظومة التوريث بكل ملفاتها.. ان تأخذ فرصة عمل لا تستحقها ويحرم منها الأحق والأجدر.. ان تحصل على توقيع مسئول كبير أو صغير فى امتلاك أصول أو أراض أو عقارات لا حق لك فيها، ان تعتدى على المال العام كأنه مال خاص وتنهب منه ما تشاء دون رقابة أو حساب، أن يكون المسئول الكبير قدوة فى السلوك والأمانة والترفع امام مرؤسيه وان تعود للمال العام قدسيته فى سلوكيات الناس.. ان تسقط منظومة المجاملات والتوصيات بحيث يعود مبدأ تكافؤ الفرص حسب الجهد والتميز والكفاءة ؟
> هناك قيم غرستها سلطة القرار وزعت فيها بصورة جائرة امتيازات وأصول وأرصدة وتحولت إلى مكتسبات موروثة على المستوى الاجتماعى، وفى ظل سعار المال الذى سيطر على الشارع المصرى أصبح المال سلطانا على الجميع، ومع المال كان زواج السلطة ومع الاثنين كان الإحساس بالسطوة والقوة لدى البعض، بينما الملايين لا مال ولا سلطان ولا قوة، وهنا على المجتمع ان يستعيد توازنه بالقانون، فحين يغيب القانون تصبح القوة مصدر السلطات ممثلة فى المال أو النفوذ أو الفوضى.. ان مصر الآن تعانى كل هذه الظواهر الغريبة وحين يغيب القانون تظهر مصادر أخرى للقوة أخطرها الفوضى والانفلات، وحين تغيب العدالة يكون الظلم صاحب القرار، وأمام ما تعرضت له مصر فى السنوات العجاف فقد اختلت كل هذه القيم ونقطة البداية هى العدالة، لأنها حين تغيب يختل المسار وتفقد الحقيقة طريقها.
أما ما بقى من ثلاثية ثورة يناير فهى الحرية والكرامة الإنسانية وهذه قضايا اخرى قد نختلف عليها حيث لا كرامة بلا حرية.. وان كانت العدالة هى الأساس فى هذه المنظومة التى اختلت كل مقوماتها وتحتاج إلى علاج حاسم وطريق واضح وقرار سليم، هناك عهد قام بتوريث مصر ظلما لطبقة جديدة اخذت كل شئ فهل يكون على يد العهد الجديد العدل والخلاص!.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة