الأمر الآخر أن برلماننا الموقر لم يعترض على قانون الخدمة المدنية لاعتبارات تتعلق بالشرعية أو الدستورية أو الحريات أو العدالة الاجتماعية
عندما أدلى الرئيس فى عيد الشرطة بتصريحاته حول رفض مجلس النواب لقانون الخدمة المدنية، طالباً من أعضائه التروى فى قراءة مشروعات القوانين جيداً، وأن هذا القانون كان محاولة لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة، وأن هذا الجهاز يضم بين جنباته حوالى سبعة ملايين موظف، وأن الدولة ليست بحاجة إلا لمليون واحد منهم، عندما أدلى الرئيس بهذه التصريحات أثارت تصريحاته كثيراً من التساؤلات والتعليقات والملاحظات، التى أرجو أن يتسع لها الصدر دون ضيق.
الملاحظة الأولى (بالخلاف لرأى متسرع كنت قد أبديته) أن هذه التصريحات لا تنطوى على مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال السلطة التشريعية. فالسلطات لا تعمل فى جزر منعزلة، فللرئيس، باعتباره رأس السلطة التنفيذية، أن يوجه النقد للسلطة التشريعية. مثلما أن من واجب السلطة التشريعية مراقبة أداء السلطة التنفيذية، بل وسحب الثقة منها إن رأت لزوماً لذلك.
وتحفل الحياة السياسية فى الدول الديمقراطية الحقة بهذه الممارسات، بل إن الرئيس أوباما لم يتردد فى توجيه النقد للكونجرس مرارا، بل وتوجيه اللوم الحاد للمحكمة العليا الأمريكية عندما أصدرت حكمها الشهير بشأن تمويل حملات الانتخابات الرئاسية. ولم تتم إحالته إلى قاضى التحقيق بتهمة إهانة القضاء الأمريكى، فليس لديهم هذه التهمة. ولكن ثمة ملاحظات عديدة أحسبها صائبة إلى أن يثبت العكس. فأظن أن الجهة المسؤولة عن إمداد المسؤولين بالدولة، وفى مقدمتهم الرئيس، بالبيانات الإحصائية فى حاجة إلى مراجعة. إذ كيف يقال إن الدولة بحاجة فقط إلى مليون موظف من بين الملايين السبعة من العاملين، إذا كانت وزارة التعليم وحدها يعمل بها ما يزيد على المليون ونصف المليون شخص؟ هل تنوى الدولة إغلاق مدارسها والاستغناء عن معلميها ومساعديهم من الإداريين؟ ونفس الأمر ينطبق على وزارة الداخلية التى يعمل بها ما يقرب من ثمانمائة وثلاثين ألف شخص بخلاف الجيوش الجرارة للأمن المركزى التى ينخرط بها مئات الآلاف من المجندين، ووزارة الصحة التى يعمل بها ما يزيد على أربعمائة ألف شخص، فهل تنوى الدولة الكف عن رعاية الأمن وتقديم العلاج؟ لابد من ضبط الأرقام إن أردنا الخروج بنتائج صحيحة، ويجب أن نفعل ذلك بإخلاص لأننا جميعا فى قارب واحد مصيره واحد.
قانون الخدمة المدنية هو القانون الوحيد الذى رفضه البرلمان الوليد. وثمة مجموعة من الحقائق واجبة الإثبات: أن البرلمان قد وافق دون مناقشة تقريباً، وغالباً دون قراءة، على حوالى 350 قانونا رئاسيا، ومنها ما هو أخطر من قانون الخدمة المدنية، وأكثر مساسا بالحقوق والحريات العامة وبأداء الدولة. وتنطوى بعض هذه القوانين التى وافق عليها المجلس على شبهات قوية بعدم الدستورية الموضوعية. ومع ذلك سلم البرلمان من النقد الرسمى لموافقته على هذه القوانين، رغم أن الطريقة التى تم بها تمريرها دون مناقشة تقريباً قد تنحدر بها إلى شبهة الانعدام، وستثبت الأيام صحة وصواب ما كنا عنه معرضين.
الأمر الآخر أن برلماننا الموقر لم يعترض على قانون الخدمة المدنية لاعتبارات تتعلق بالشرعية أو الدستورية أو الحريات أو العدالة الاجتماعية أو حسن السياسة التشريعية (حاشا لله)، وإنما لاعتبارات تتعلق بالمعارك الانتخابية السابقة والقادمة، وأصوات الملايين التى تنتظره خارج المجلس. القانون بذاته قانون جيد يُرَشِّد الجهاز الإدارى المترهل الذى كانت الدولة والتوريث فى الوظائف والوساطة فى توليها سببا رئيسيا فى ترهله وعدم كفاءته، ولكن يعيب القانون كثرة إحالة أحكامه إلى اللائحة التنفيذية، بما يجعل السلطة التنفيذية هى المشرع الحقيقى. ويعيبه أيضا أنه صدر دون حوار مجتمعى حقيقى، وأنه طبق فجأة دون تدرج، وأنه كان بحاجة إلى مزيد من الضمانات للموظفين تحول دون تعسف الرؤساء ضدهم. وكان من الممكن تلافى كل هذه العيوب لو أن أولى الأمر آثروا انتظار تشكيل البرلمان صاحب السلطة الأصيلة فى التشريع، كما فعلوا مع القوانين التى تنظم الممارسات والحريات الإعلامية مثلاً.
ولم يكن بوسع البرلمان وفقاً للمادة ١٥٦ من الدستور أن يدخل أى تعديلات على هذا القرار بقانون أو غيره، لأنه لم يكن أمامه وفقاً لصريح نص المادة إلا أحد خيارين: إما الرفض، وبالتالى يزول بأثر رجعى ما للقرار من قوة القانون، وإما الموافقة بعد المناقشة، وقد رفضه البرلمان بعد المناقشة، وبعد ذلك يأتى الحديث عن تقديم مشروع آخر معدل. وهذا أمر تتحمل مسؤوليته الحكومة التى لم تفهم الفهم الصحيح نص المادة ١٥٦ من الدستور، التى تقصر سلطة الرئيس فى التشريع فى غيبة البرلمان على حالة الضرورة التى لا تحتمل التأخير.
ما علينا، موقف الزهو بالقوة هو المسؤول عن كون رفض البرلمان لقانون الخدمة المدنية هو الممارسة الوحيدة منه لحقه الدستورى فى عدم إقرار القوانين الرئاسية، بينما عزف (أو أذعن) عن عدم ممارسة هذا الحق فيما هو أوجب وأدعى.
موقف الزهو بالقوة ولو كانت غير عاقلة، حين تكون العقلانية القوية هى الأوجب، هو موطن الداء فى الأداء العام للدولة المصرية. فعندما تتسلط الأذرع القوية المفتولة لأجهزة الأمن على زهور شباب مصر بالقبض العشوائى عليهم بحجة نية التظاهر (رغم أن القانون لا يعلق على النيات) ذعراً منها من ذكرى ٢٥ يناير، فليس هذا إلا زهواً غير عقلانى بالقوة ندفع ثمنه غالياً على الساحتين الدولية والداخلية. وعندما يتحول الحبس الاحتياطى عندنا إلى بديل عن الاعتقال غير محدد المدة (حالة طفل التى شيرت نموذجا) فهذا زهو غير عقلانى بالقوة. وعندما يتباهى بعض القضاة بأنهم قضاة إعدامات فهذا زهو ممقوت بالقوة. وعندما تنكر الداخلية وجود حالات الاختفاء القسرى ثم يتبين أن هناك عشرات من المحتجزين لديها خفية، فهذا نوع من استعراض العضلات المفتولة. وعندما تسعى سلطات الدولة (مع كامل توقيرنا وبعدنا عن قصد الإهانة) إلى أن تستخدم سلطتها لخدمة مصالح أفرادها، بينما شرعت هذه السلطة فى الدستور لخدمة الشعب، فهذا نوع آخر من تحويل السلطة إلى تسلط. وأقرب الأمثلة على ذلك الفتوى التى صدرت عن مجلس الدولة بأن رجال القضاء لا يخضعون لقانون الكسب غير المشروع. وقبل ذلك صدر قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة بعدم قبول النساء كقاضيات بالمجلس. وقبل ذلك صدرت تصريحات عن مشروعية الاستثناء وعدم تطبيق القانون على فئات بعينها، لا لشىء إلا أنها تتمتع بسلطة حولتها إلى تسلط وبصلاحية حكم حولته إلى تحكم.
وليس بعيداً عن منطق الزهو غير العاقل بالسلطة تلك الممارسات الفجة التى مورست مع رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات. الرجل موظف عام رفيع القدر، قد يصيب ويخطئ، والفيصل بيننا وبينه هو القانون، الذى يجب أن يطبق بحيدة ونزاهة وتجرد. الرجل وفاء لواجبات وظيفته أشار إلى وجود إهدار جسيم للمال العام من أجهزة سيادية، فإذا برئيس نادى القضاة (وزير العدل الحالى) يتهمه بإهانة القضاء. وبصرف النظر عن أن أى إجراء فى تحقيق هذه التهمة لابد قانوناً أن يسبقه طلب من صاحب الصفة، وهو مجلس القضاء الأعلى وحده، فإن النص على جرائم الإهانات والازدراء والحض على الكراهية وترويج الشائعات المغرضة، وغير ذلك من جرائم هى نصوص غير دستورية لعدم انضباط الركن المادى لها، وفق ما قضت به المحكمة الدستورية العليا فى العديد من أحكامها.
الدولة القوية يجب أن تكون دولة عاقلة. وتكون الدولة عاقلة عندما يوازن قانونها وقضاؤها موازنة دقيقة بين الأمن من ناحية، وحقوق وحريات المواطنين من ناحية أخرى. وعندما تكون أجهزة إنفاذ القانون قادرة على إنزال حكمه بنزاهة وكفاءة ودون تعسف. وعندما يكون نظام العدالة قادراً على ملاحقة الخارجين على القانون فعلاً لا ادعاء، وتكون الأحكام القضائية واجبة التطبيق فوراً. وعندما تبتعد أجهزة الدولة عن استخدام سلطتها للقصاص لنفسها ممن ينتقدون امتيازاتها أو ممارساتها غير المشروعة، وعندما تتوزع أعباء التكاليف العامة على الجميع، كل حسب مقدرته وكل حسب عمله، وعندما تكون الدولة قادرة على سد ذرائع الفساد حقاً وليس ملاحقة من يكشفون عنه..
والشعوب تراقب.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة