اعتمد المسح الطبقى (الذى شاركت فيه عدة جهات ونفذته عبر عديد المواقع الالكترونية هيئة الـBBC) على جديد النظريات العلمية
ما أن رصد جى ستاندينج عالم الدراسات التنموية البريطانى ملاحظته حول تنامى ما أطلق عليه «طبقة البريكاريات»؛ أو الطبقة الهامشية، المنسية، والتى لم تعد تدخل ضمن اهتمام الخطط الحكومية. ومن ثم ترُكت تواجه مصيرها بنفسها. حتى بدأ النقاش المجتمعى على أهمية دراسة الوضع الطبقى فى بريطانيا.
فلقد أوضحت النقاشات الأولية التى دارت فى الدوائر الأكاديمية والحكومية والسياسية أن هناك ثلاث حقائق لا يمكن إغفالها هي: أولا: أن الجسم الاجتماعى البريطانى قد طالته تحولات نوعية. ولم يعد التقسيم الطبقى الكلاسيكى المتعارف عليه صالحا. ثانيا: أن هناك علاقة وثيقة بين السياسات الاقتصادية (النيولبرالية التى تقوم على الخصخصة واقتصاد السوق) وما يتبعها من سياسات اجتماعية فيما جرى من تفاوتات حادة بين قمة الجسم الاجتماعى البريطانى وقاعدته التى باتت تستشعر تهديدا وجوديا ما يولد لديها غضبا تجاه كل ما حولها. ثالثا:لابد من تصويب السياسات الاقتصادية. ولكن هذا التصويب وحتى يسير فى مسار صحيح لابد من إجراء دراسة عن التحولات التى طالت البنية الطبقية الراهنة بصورة تفصيلية قدر الإمكان.
اعتمد المسح الطبقى (الذى شاركت فيه عدة جهات ونفذته عبر عديد المواقع الالكترونية هيئة الـBBC) على جديد النظريات العلمية فى دراسة الطبقات الاجتماعية وإعادة رسم خريطة تفصيلية لها تتجاوز التصنيف الثلاثى التاريخى ولكن لا تهمله. لذا أخذ المسح فى اعتباره عشرات العناصر القيمية والمعنوية والمادية والواقعية والتى استجدت على المجتمعات نتيجة التقدم المطرد والمتضاعف فى المعرفة والتكنولوجيا. كذلك التقاطعات بين السياسة والاقتصاد والثقافة. وأخيرا أثر الحداثة والمفاهيم الحقوقية الجديدة على حراك الشرائح الاجتماعية المتنوعة وقدرتها على الاندماج أو امتناعها/ منعها عنه... إلخ.
نتج عن هذا المسح الذى أعلنت نتائجه فى 2013 أن الجسم الاجتماعى لبريطانيا الكبرى (العظمي)، يتكون من سبع طبقات اجتماعية موزعة كما يلي: أولا: طبقة النخبة ونسبتها 7%. ثانيا: الطبقة الوسطى المستقرة ونسبتها 25%. ثالثا: الطبقة الوسطة المهنية ونسبتها 6%. رابعا: العمالة الجديدة ونسبتها 15%. خامسا: الطبقة العاملة التقليدية ونسبتها 14%. طبقة العمالة الخدمية غير دائمة ونسبتها 19%. سابعا: طبقة «المنسيونس/ الخطرة الجديدة» ونسبتها 15%.
اهتم المسح فى أن يحدد توزيع الطبقات السبع جغرافيا. كذلك متوسط أعمار كل طبقة. كما أجرى حصرا لطبيعة المهن والعمالة، ووسائل الإنتاج المتنوعة المستخدمة ودراسة العلاقات المتنوعة لكل طبقة على المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما راعى أن يدرس وجهة نظر العينة للعالم وللمال، والهوية... إلخ.
وفى هذا المقام أشار المسح إلى ارتفاع متوسط عمر طبقة العمالة التقليدية حيث بلغت 66 سنة مقارنة بالعمالة الجديدة المرتبطة بالتقنيات الحديثة، حيث بلغ متوسط عمرها 44 سنة. كذلك تراجع الطبقة الوسطى المهنية. بيد أن أهم ما أوضحه المسح هو أن الطبقة التى تمثل قاعدة الجسم الطبقى أى طبقة «البريكاريات» (أو الطبقة الخارج أى حسابات/ الطبقة الما قبل مجتمع/ برية Savage/ الخطرة الجديدة) تشكل 15% من إجمالى السكان. وإذا ما أضفنا طبقة العمالة الخدمية غير الدائمة والتى تبلغ 19% كطبقة مرشحة للحاق «بالبريكاريات». فإن المحصلة النهائية سوف تعنى أن أكثر من ثلث بريطانيا بات كتلة سكانية مهمشة أو تنتمى إلى طبقة «البريكاريات». ولا يفتنا أن نذكر أن غالبية تمركز الثروة العامة يكون فى قمة الهرم الطبقى ويقل كلما اتجهنا إلى أسفل الجسم الاجتماعي. وفى المقابل فإن المواطنة الفاعلة تقل ايضا كلما اتجهنا إلى أسفل، حيث يتحول المواطنون إلى مقيمين بالبدن فى المجتمع ليس لهم دور أو حضور لأنهم غير مندمجين فى الأبنية المجتمعية المتنوعة.
بالطبع هناك ملاحظات كثيرة على هذا المسح، إلا أن كثيرين اتفقوا على أنه فتح آفاقا جديدة فى مجال دراسة التحولات المجتمعية والطبقية، وذلك لأسباب ثلاثة هي: أولا: أن المسح البريطانى قد اتبع منهجا تحليليا تكامليا فى فهم المستجدات التى طرأت على جسم المجتمع البريطانى يأخذ فى الاعتبار ما يلي: علاقات الإنتاج، والعلاقات التوزيعية القائمة، وعلاقات القوى والمكانة، وتصورات الطبقات المتنوعة الفكرية، وتأثير ما استجد على هذا الجسم بفعل مجتمع المعلومات والاتصالات ماديا ومعنويا. ثانيا: التمييز الدقيق بين الطبقات الكلاسيكية القديمة والجديدة بفعل التقنيات الحديثة مثل: الطبقة العاملة القديمة والطبقة العاملة الجديدة.والطبقة الوسطى الجديدة والقديمة. وتبلور طبقة خارج السياق الاجتماعى الكلاسيكى هى طبقة «البريكاريات» أو طبقة «عبده موتة». ثالثا: الربط بين نتائج المسح وكيفية تصويب السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية. لأنه من غير المنطقى الاستمرار فى نهج نفس السياسات التى أنتجت الطبقة المهمشة الغاضبة الخطرة.
وقد كان لهذا المسح الفضل فى إطلاق حوارات معتبرة فى الدوائر السياسية والأكاديمية فى كيفية علاج التشوهات المكتشفة فى الجسم الاجتماعى بدقة، وإطلاق وثيقة مثلت إطارا أخلاقيا وحقوقيا وعلميا لعلاج تهميش كتلة سكانية وإقصائها من البنية الطبقية تقترب من 15% من السكان، ومرشحة للزيادة ما يعنى مزيدا من التدهور المجتمعي.. ونتابع...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة