ترتفع القهوة فى الركوة على النار مع ارتفاع حرارتها، فتظهر على سطحها طبقة لونها عسلى تغطى باقى السائل الأغمق لونا
ترتفع القهوة فى الركوة على النار مع ارتفاع حرارتها، فتظهر على سطحها طبقة لونها عسلى تغطى باقى السائل الأغمق لونا.
أرفع الركوة، أو الإناء المعدنى الخاص بعمل القهوة من على النار. أحرك ما فيها بملعقة لأخلط الطبقة العليا من القهوة بباقيها وأعيدها إلى النار حتى تغلى مرة أخرى.
ترتفع القهوة مجددا من جراء الحرارة تحتها حتى يخيل لى أنها ستفور وتطفح من الركوة.
«ما تخليها تطف» تقول أمى فى الخلفية. أمى لا تقف معى فى المطبخ رغم أن توجيهاتها ترافق كل تحركاتى.
«وطى النار وخليها تغلى شوى شوى». يصلنى صوتها حتى حين أكون وحدى.
كم مرة سمعت هذا التحذير من أمى ومن جدتى ومن كبيرات العائلة حين تكون إحداهن فى المطبخ وقت تحضير القهوة. لا شىء فى هذه العملية يدفع إلى الاستعجال.
«خلى النار واطية وحركى القهوة باستمرار حتى تروح القشطة» تقول الجدة مستعملة كلمة «قشطة» بالإشارة إلى الطبقة العسلية التى تظهر فى الأعلى.
هل أرد على أمى أو على جدتى أننى أسمع هذا التعليق منذ ثلاثين سنة، أى منذ أول مرة قررت فيها أن أغلى القهوة لصديقات جدتى فى يوم كنت أزورها فيه؟ هل أقول أننى كنت كثيرا ما يشرد ذهنى لثوانٍ تكون كافية كى تزمجر القهوة غضبا فتخرج كالبركان من الركوة وتطفئ النار من تحتها؟ هل أعترف أننى فى هذه الحالات كنت أسرع بتنظيف ما حل من حولى حتى لا تنتبه أمى أننى لم ألتزم بتحذيرها رغم أننى قلت وأكدت لها مرارا «ماما خلص والله بعرف أعمل القهوة؟» طبعا فى هذه الأوقات كنت أحدث نفسى فى المطبخ بصوت خافت حتى لا تسمعنى أمى وصديقاتها «يعنى ضرورية القهوة؟ ما كان ممكن يشربوا شاى أو عصير؟».
أعرف طبعا أن ذلك غير ممكن، وأن القهوة ليست فقط ما يشربه السوريون فى الصبحية وفى الزيارات، إنما هى حالة نفسية واجتماعية متكاملة تضم تقليد الزيارة والضيافة وتبادل الأخبار وتلقى التهانى والتعازى، والمصالحات بعد الخلاف والتأكيد على اتفاقات، كلها تحت مسمى «أعملوا لنا فنجان قهوة».
***
فرق كبير بين القهوة المسماة مجازا «تركية» التى تقدم فى سوريا وبين نظيرتها التى نشربها فى مصر، وكثيرا ما يشكل هذا الفرق مادة للحديث مع الأصدقاء المصريين والسوريين. ففى مصر يجب الحفاظ على الطبقة التى تظهر مع أول غليان للماء المخلوط بالبن، ويقال أن من لا تحافظ على ما يسمى «وش (أى وجه) القهوة» غير مؤهلة للزواج.
فى سوريا الفكرة معكوسة، فمن شبه المعيب أن يحضر فنجان القهوة للضيف وعلى وجهه هذه الطبقة، لما فى ذلك من دلالة على قلة تحلى من صنعته بالصبر.
صنع القهوة، كأى شىء يتم عمله فى المطبخ السورى، يجب أن يجرى بتأنٍ وتؤدة، يجب أن يأخذ من يعدها الوقت اللازم من دون استعجال. القهوة تغلى ببطء، يتم رفعها من على النار وإعادتها عدة مرات مع تحريكها بملعقة طويلة العنق تصل إلى قعر الركوة فتقلب محتواها رأسا على عقب، من فوق إلى الأسفل ومن تحت إلى الأعلى، حتى تختفى طبقة الرغوة من على وجهها ويصبح الخليط كله من لون وتماسكٍ واحد.
هذه القهوة غنية الطعم دون أن تكون ثقيلة القوام، كثيفة دون أن تكون لزجة، رائحتها نفاذة دون أن تكون منفرة، طعمها يذكر بصباحات ربيعية اجتمعت فيها الصديقات فى بيت إحداهن واختلطت فى أحاديثهن القصص، فصرخت إحدى الحاضرات مثلا «لا لا، فريدة ما رجعت من الحج لسه، هانية هى اللى رجعت مبارح ورح نروح نبارك لها يوم الأربعاء».
هذه القهوة شاهدة على الأسرار دون أن تنشرها، مشاركة فى النميمة دون أن تفضحها، كاتمة لحكايات كثيرة تختلط برائحة الهال. هذه القهوة تدور من حولها الحياة وتظهر فيها قصة حب مع كل رشفة، حتى نصل إلى الرشفة الأخيرة فنقول «دايمة القهوة والصحبة الحلوة» ونسمع الرد «بوجودكم إن شاء الله، أهلا وسهلا».
***
هناك بعض الأمثلة المرافقة للقهوة يتم الإشارة إليها فى أحاديث الصديقات: «شوفى شوفى شكله فى قبضة جاية (أى سوف يقبض أحدهم، غالبا صاحب الفنجان، مبلغا من المال)، وذلك حين تكون هناك بقعة من وجه القهوة (أو القشطة) مستقرة على سطحها، وبذلك يتم الغفران لمن أعد القهوة على هروب بعض القشطة من الركوة إلى الفنجان.
«خير خير، كب القهوة خير» يقولون حين تقع القهوة من الفنجان وتلوث ما حولها» وذلك للتقليل من أثر الأذى الذى يمكن أن يكون قد حصل، وفى إشارة إلى أن شرب القهوة وما يرافقه من صحبة جميلة وجلسة سمر سينتشر مع انتشار القهوة على المفرش أو على الطاولة حيث وقعت.
«قهوتكم مشروبة» قد يقول أحدهم ويقصد أنه وكأنه قد شرب القهوة وهو فى ذلك يعتذر عن شربها مع إقراره بأن صاحب البيت قد عرضها عليه وهو من رفض. فمن المعيب ألا يتم عرض فنجان القهوة على أى ضيف يدخل بيتا أو حتى مكان عمل.
***
للمآتم أيضا قهوتها فى سوريا، لكن تلك تكون ما يسمى بالقهوة المرة، وهى نوع من القهوة المخلوطة بمطحون كثير من حب الهال أشبه بما يقدمه أهل الصحراء إلى ضيوفهم من قهوة أقل كثافة وأكثر مرارة حتى يكاد طعم البن والهال فيها أن يميل للحموضة، مع عدم إمكانية إضافة السكر إليها، فهى تُشرب دوما مُرة. غير أن هذا التقليد غير منصف بحق أهل البادية السورية المعروفين بكرمهم لاسيما مع الغريب، والمعروفين أيضا بصنعهم لهذا النوع من القهوة على الدوام وبعيدا عن الموت والحزن.
يراقب العالم هذا الأسبوع محاولة قد تكاد تكون الأخيرة للمفاوضات السورية فى جنيف.
يحضرنى موقف سورى (وقد يكون شاميا أو مشرقيا) يتم فيه وضع فناجين القهوة على الطاولة بين أشخاص يحاولون عقد اتفاق، تجارى كان أو شخصى كطلب طرف الزواج بابنة الطرف الآخر. تبقى فناجين القهوة على الطاولة لا يمسها أحد من الحاضرين للدلالة على أن المفاوضات لا تزال جارية. حين يصل الأطراف إلى اتفاق، يقوم راعى الاتفاق أو الطرف الأكبر عمرا بين الحاضرين بإعطاء الإشارة: «مبروك، خلونا نشرب القهوة».
لا أعلم إن كان الحاضرون فى جنيف على وشك شرب القهوة، لكننى أتطلع إلى يوم نشربها فى سوريا ونقول كما يقال فى المآتم بعد شرب القهوة المرة «إن شاء الله خاتمة الأحزان».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة