للتخلف قوانين نمو ايضا، فهو ليس عشوائيا وعصيّا على تفكيك وقياس نسبة نموه وتسارعه لكن على نحو معكوس!
التقدم والتخلف كالثّراء والفقر والقوة والضعف، لا يمكن رصد طرف واحد من هذه الثنائيات بمعزل عن الآخر الذى غالبا ما ينتجه، فالفقر ليس قدرا سماويا أو نمطا من الشقاء البشرى العصيّ على التفكيك، إنه من انتاج فائض الثراء، وكذلك الضعف الذى هو فى نهاية المطاف من إنتاج فائض القوة، لكن لأطراف أخرى غير تلك التى توصف بالضعف .
إن مبتدأ التخلف تعريفا وإحاطة بالدلالات على اختلاف مجالاتها يفترض مسبقا نموذجا من التقدم يُقاس عليه، فالمتخلفون اليوم لا يقاس تخلفهم على أوروبا فى القرن التاسع عشر، بل على ما وَصَلت اليه الآن، اما المفارقة الكبرى فى هذا السياق فهى ان معظم المقاربات التى تسعى الى تفكيك التخلف تعانى هى ذاتها من التخلف، واذا كان لا بد من مثال فهو ندوة عقدت فى عاصمة عربية حول التخلف وأسبابه وسُبُل علاجه وكان الثالوث المحرم او التابوات الثلاثة وهى الدين والجنس والسياسة خارج مدار الندوة، ولم يسأل المشاركون انفسهم عما تبقى من تلك القارة المظلمة؟ وما اذا كان التخلف متعلقا باستخدام الحاسوب او المكنسة الكهربائية أو مساحيق التجميل وتكنولوجيا ترشيق البدانة!
إن الرقام والاحصاءات وحدها ومهما بلغت من الدقة بواسطة اذكى الحواسيب ليست الاسلوب الوحيد لقياس منسوب التقدم والتخلف معا، تماما كما ان تقارير البنك الدولى عن مستويات النمو الاقتصادى ليست مقياسا للتعرف على رفاهية الشعوب ومستوى المعيشة فيها، وبالفعل حدث مرارا أن تزامنت تلك التقارير مع مضاعفة الشقاء وتردى مستويات الحياة كما حدث فى البرازيل وتونس بالرغم من التباين بين النموذجين، وذلك يذكرنا بمساعدات الشمال للجنوب التى بلغت فى احد الأعوام اكثر من ستين مليار دولار، لم يصل منها الى الشعوب غير اقل من ربع هذا الرقم، والباقى امتصه اسفنج الفساد والنظم العسكرية مما أدخلها الى غرف الإنعاش على حساب ملايين المرضى الذين يموتون بصمت.
والتخلف كمفهوم اولا، وكنتاج لخلل كونيّ اصيبت فيه البوصلات كلها بالعطب بدءا من البوصلة الأخلاقية، نادرا ما يتم فحص عينات منه تحت مجهر متعدد الزوايا، خصوصا فى عصر العولمة الذى اصبح فيه بمقدور اكثر الدول تخلفا بالمعنى الحضارى ان تنعم بتكنولوجيا متطورة لم تساهم فى انجاز مسمار واحد فيها، والإحصاءات المسكوت عنها عربيا حول التخلف وحصاده المرّ تبدو كارثية اذا عرفنا كم ينفق العرب على الشعوذة والسّحر، أو كم ينفقون على الثرثرة بالهواتف النقالة، او كم بددوا من الثروة فى تسليح منزوع الفاعلية والهدف، لأن استخدامه يُلبيّ غايتيْن اولاهما الاستجابة الطوعية لمنتجى هذه الأسلحة لأنها تبحث عن أسواق وثانيهما حروب الإخوة الأعداء التى انتهت الى ما يمكن تسميته بلا تردد الانتحار القومى.
وهناك ظاهرة نشأت فى العالم العربى على درجة من التحفظ والاستحياء، ثم تفاقمت واستفحلت، هى التواطؤ الذى ساهم فيه أكاديميون ومثقفون ميديائيون بحيث تقوم الدول بعقد ندوات عن شجون لا تعيشها، مما يجعل حاصل جمع الجهود المبذولة فيها ممنوعا من أى صرف ميداني، فالأغنياء يرعون ندوات عن مجتمعات زراعية فقيرة، والفقراء يتحدثون عن قضايا ليس لديهم من فائض الرفاهية ما يتيح لهم ذلك، وعبر هذه التبادلية تحوّل السّائد الثقافى الى ما يشبه الحفلة التنكرية يرتدى فيها المتسول قناع الملياردير الباذخ، ولا بأس ان يرتدى الملياردير قناع المتسول، ما دام الاثنان سيعودان عند الفجر وبعد الحفلة الى قواعدهم سالمين!
أقول بعد ذلك أن سرْد قائمة بأسماء اطعمة مجهولة لدى الجائع العربى لا يحرك فيه ساكنا ولا يسيل لعابه، فماذا مثلا لو ذكر امامه اسم شاتوبريان او حتى اومليت؟ فالاستجابة العضوية مشروطة بما هو ذهني، وهناك تجربة فريدة اجراها منير العكش ونشرت فى مجلة مواقف اللبنانية فى سبعينيات القرن الماضى تستحق التكرار فى عدة مجالات، وهى اختيار عيّنات من القرّاء العرب خصوصا للشعر وبالتالى رصد استجاباتهم العضوية لبعض المفردات، وكان الشاعر الراحل نزار قبانى احد النماذج فى تلك التجربة.
والمجتمعات التى تتفوق فيها التقاليد والأعراف الموروثة أو ما يسميه اوليفييه روا الجهل المقدس تخجل من فقرها وتحاول التستر عليه كما لو انه عورة، لهذا فإن كفاحها من أجل التغيير يبقى مؤجلا ويتحول الى مديونيات على احفادها وقد يضيف التاريخ على تلك المديونيات نسبة من الربا السياسى والثقافى وليس الاقتصادى فقط.
واذا كان لكل جُملة مبتدأ وخبر وبغير ذلك تتحول الى شبه جُملة يتعذّر ايصالها، فإن جملة التخلف كما هو وليس كما تتم صياغته من اجل تهريبه او تجميله او تسليحه بكبرياء قومى زائف هو شبه جملة، المبتدأ فيها معروف والخبر محذوف لأن الرقيب التقليدى استقال من وظيفته ليحل مكانه رقيب ذاتى يجلس على اصابع من يكتبون واحيانا ينصب افخاخه وكمائنه فى المسافة بين القلب واللسان.
ان اى احصاءات تبقى صمّاء اذا لم تربط على الفور بظواهر وأسباب ادت اليها، وكما ان هناك فجرا كاذبا وحملا كاذبا وتضاريس كاذبة كالسراب تبتكرها العين الكليلة هناك بالمقابل احصاءات عن عدد الجامعات والمعاهد وعدد النساء فيها ايضا، لكن نمط التعليم وحتى اهدافه الوظيفية حولت الجامعات الى حاضنات لتفقيس الموظفين احيانا والعاطلين احيانا اخرى، ولكى لا نبقى فى نطاق التجريد، سأذكر مثالا واحدا عن تقرير تنمية بشرية نشر عام 1999 وفيه محاولة استشراف للألفية الثالثة، وتضمن خمسة عشر محورا، لم يكن من بينها محور واحد عن أسباب نمو التخلف، وكأن التخلف مجرد ركام او فوضى لا تقبل القياس، رغم ان له قوانين نموه ايضا، وقد يزداد مع كل يوم جديد.
ان من يكتبون عن عزوف العربى عن القراءة مثلا لا يذكرون من الأسباب غير المسموح به، فالمحظور الاقتراب منه والمسكوت عنه بتواطؤ متعمد هو قارة غارقة فى باطن الواقع والذات، ومن يكتبون عن الطغيان والاستبداد السياسى يتجاهلون الطغيان الاخر، وهو الديكتاتور غير المرئى الذى يتشكل من عادات واعراف اكتسبت درجة من القداسة والشرعية لمجرد انها مستمر وعابرة للاجيال.
هكذا إذن يجد المثقف الجدير بهذه الصفة نفسه مسحوقا بين مطرقة الاستبداد السياسى والاستعباد الاجتماعى، والناجون من هذا المصير هم تلامذة الحرباء والببغاء، الذين يغيرون جلودهم كلما تطلب الامر ذلك، ويرددون صدى اصوات سادتهم اذا كان لا بد لهم من افساد الصمت، فالإنسان كما يقول رسول حمزاتوف يتعلم الكلام فى عامين لكنه يحتاج ستين عاما كى يتعلم الصمت، لهذا حبّذا لو يصمت من تحولوا الى سبب اضافى للتخلف وهم يطرحون أنفسهم فقهاء فى اعلان الحرب عليه، ولو كتب فى الاعلام والمنابر الثقافية عن العشوائيات الاكاديمية والاجتماعية والثقافية والسياسية واحد بالالف مما كُتب عن العشوائيات بالمفهوم العمرانى لتغّير المشهد تماما.
اخيرا، يجدر بنا ان نتذكر على مدار اللحظة وليس الساعة فقط ان للتخلف قوانين نمو ايضا، فهو ليس عشوائيا وعصيّا على تفكيك وقياس نسبة نموه وتسارعه لكن على نحو معكوس!
وعلى من يعالج مرضا عضالا بكمادات الماء البارد أو حول مواقد المشعوذين ان لا ينتظر الشفاء! ولأنه ما من عقد اجتماعى حتى بالمستوى البدائى للماكناغارتا بين قبطان السفينة وفئرانها، فإن النخب التى تدين للأمية ببقائها لأنها عور فى بلاد العميان حسب رواية ويلز هى الأسرع والأرشق فى القفز عندما تشم بانوف مدرّبة رائحة الغرق، ومقولة جان جاك روسو الشهيرة التى قال فيها ان الشقاء والفقر والاستبداد لا يصنع الثورات، بل الوعى بهذه الكوارث التى أفرزها التاريخ لتنافس كوارث الطبيعة فى قسوتها، وهذا ما انتهى اليه ايضا تشى غيفارا بعد رحلته الشهيرة الى زائير، وبهذا المعنى فإن التخلف لمن لا يعيه مجرد كلمة غامضة او صفة تطلق على سبيل الهجاء على شخص ما لأنه اتخذ موقفا لا يتناغم مع مناسبة اجتماعية!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة