باسم «الولاء للنظام» تصورت بعض «كلاب الحراسة»، بالتعبير الفرنسى، أن بوسعها ملء الفراغ السياسى بالصراخ وانتهاك الخصوصية دون ردع من قانون
الأزمات تتزاحم على نحو يومئ باحتمالات انفلاتها إلى حيث لا يعرف أحد ماذا بعدها.
فى كل يوم أزمة جديدة كأن مصر لا تكفيها أزماتها المتوارثة.
بعض الأزمات تعود أسبابها إلى انهيارات بنية الدولة وتصدع مؤسساتها العامة.
وبعضها الآخر من تبعات تنحية السياسة وانسداد قنواتها وغياب أية رؤية للمستقبل.
النوع الأول يتطلب إصلاحا شاملا فى الجهاز الحكومى ومؤسستى الأمن والعدالة وإعادة فحص الأولويات المعتمدة فى المشروعات الاقتصادية الكبرى.
هذه ملفات يصعب تأجيلها بالمكابرة دون تكاليف باهظة من هيبة الدولة.
والنوع الثانى يستدعى الحوار باعتباره «البديل الآمن» الذى يجنب البلد اضطرابات لا تحتملها فى لحظة حرب مع الإرهاب وضيق الموارد المالية عن تلبية الاحتياجات المتزايدة.
بالتعريف الحوار عمل سياسى.
نصف السياسة كلام.
الناس تتوافق بقدر ما تشارك وتضحى بقدر ما تقتنع.
رغم ذلك فإن فكرة الحوار ليست سهلة ولا فى متناول اليد رغم دعوة الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لـ«العقول النيرة وأصحاب الإرادات وكل ما هو جميل فى البلد» للبحث عن حل لأزمة الدولة مع شبابها.
الكلام يتخطى النوايا إلى الحقائق.
ففى صلب أجهزة الدولة من لا يسترح لفكرة الحوار ولا يخف كراهيته للمدعوين إلى موائده.
هناك طلب شبه معلن بإقصاء كل رأى مخالف كأننا فى مباراة صفرية، طرف يحصد كل المكاسب وطرف يدفع كل فواتير الخسارة.
بصورة ما فإن هناك تنازعا بين فكرتى «الحوار الممكن» و«الحوار المستحيل».
إذا كان هناك من تساوره شكوكه فى عدم جدية الدعوة للحوار فلديه ما يستند إليه من خبرات وتجارب ومخاوف.
وإذا كان هناك من هو مستعد أن يختبر فرص الحوار فهو يخوض معركة حقيقية مع الذين يغلقون كل النوافذ ويدفعون البلد كله إلى مصائر مجهولة.
قبل انتخابات المجلس النيابى بأسابيع فكر الرئيس، بحسب معلومات مؤكدة، أن يلتقى شخصيات ومجموعات متباينة تضم سياسيين ومثقفين وإعلاميين وقطاعات جماهيرية مؤثرة.
الفكرة تأجلت دون أن تستبعد.
أى حوار يكتسب قيمته من وضوح موضوعه وأهدافه وصلة أطرافه بحقائق الموقف فى البلد.
القضية ليست الجلوس على مائدة واحدة وتبادل الرأى والتقاط الصور التذكارية.
إذا لم يكن هناك نسق سياسى يجمع الحوارات المقترحة فإنها لا تتجاوز كثيرا حفلات العلاقات العامة.
أهميتها فى مدى قدرتها على بناء توافق وطنى تحتاجه مصر مؤسس على مصارحة حقيقية بالأزمات وسبل تجاوزها.
إذا لم يكن هناك اعتراف بالأزمة فلا معنى لأى حوار ولا قيمة لأية مساجلة.
أكثر ما يستحق الالتفات فى كلام الرئيس عن «الأولتراس» الاعتراف بالأزمة بين الدولة وشبابها.
الاعتراف نفسه إيجابى رغم أنه جاء عرضا فى مداخلة هاتفية.
أزمة «الأولتراس» جزء فى الصورة العامة لكنه ليس صلبها.
وأزمة الشباب لا يمكن حلحلتها إلا بمقاربات جديدة تستبعد أى اصطناع وادعاء ووصاية.
بالنظر إلى تعقيدات بنية السلطة فإن الذين يناهضون الحوار سوف يعملون بكل الوسائل على إجهاضه تماما وربما التشهير مجددا بالمدعوين المفترضين.
لا يمكن استبعاد فرضية الصراع المكتوم.
باسم أمن النظام هناك من يتصور أن بوسعه منع الرئيس من الإقدام على خطوة الحوار الضرورية لخفض فواتير الاحتقانات التى يدرك خطورتها بخبرته كرئيس سابق للاستخبارات الحربية فى فترة عاصفة قبل ثورة «يناير» وبعدها.
باسم الأمن وتجربته المريرة، فهناك من يطلب التنكيل بـ«يناير» وحذفها بالكامل من الذاكرة العامة بكل الوجوه التى ارتبطت بها.
هذا التوجه تدعمه مصالح كبرى تحاول أن تستعيد الماضى وتطويع الحاضر لمقتضى ما يطلب غير أنه يفضى عمليا إلى الطعن فى جذر الشرعية واستدعاء المجهول إلى مقدمة المسرح المحتقن.
وكان ذلك عبئا هائلا على النظام الجديد لا يطاق ولا يحتمل.
فالنظم التى تستبيح تستباح.
مشكلة «كلاب الحراسة» أنها أسندت لنفسها أدوارا فوق حقيقة أدوارها وتوهمت فى لحظات أنها مراكز قوى وصناع قرار حتى أفلت عيارها وأخذت تنهش فى أصحابها.
لا يستبعد، بحسب إشارات معلنة، التخلص قريبا من أعبائها الباهظة على سمعة النظام.
الصراع على الحوار، أن يكون أو لا يكون، من ضمن الصراع على المستقبل، أين نقف وإلى نحن ذاهبون؟
هذه الحقيقة تستدعى من كل الذين يؤمنون بالدولة الحديثة دعما صريحا للحوار من حيث المبدأ.
الرفض المسبق هزيمة مبكرة.
لا توجد مكاسب ديمقراطية سهلة فى التاريخ.
الديمقراطية عملية تراكمية تكسب بالنقاط.
فإذا لم يكن هناك حوار الآن فإن «الحوار على الحوار» يضخ دماء جديدة فى الشرايين المتيبسة.
بكل حساب ينظر فى تعقيدات الموقف فإنه يصعب القفز فوقها إلى الحوار بين الأطراف المتباينة بمعناه الشامل.
الأعراف الدبلوماسية صاغت مصطلح «التفاوض على التفاوض» لتجاوز أية تعقيدات مستحكمة بين الأطراف المتنازعة.
شىء من هذا القبيل نحتاجه بـ«الحوار على الحوار».
كل القوى المدنية الحية مدعوة إلى أن تبلور أفكارها ورؤيتها.
كل ما هو غاضب مدعو أن يقول لنا ما تصوره لصورة المستقبل وكيفية مواجهة تحدياته؟
قيمة الغضب فيما يثيره من تساؤلات وما يطرحه من إجابات عليها.
بقدر ما تتسع الصدور لتبادل الآراء فإننا نخطو إلى الأمام بثقة.
أسوأ عرض لقضية الحوار الوقوف عند حواجز الكراهية المتفاقمة دون أدنى استعداد للنظر فى النتائج.
ليس هناك عاقل يدعو للاستغناء عن الأمن والاستخفاف بتضحياته فى الحرب مع الإرهاب.
ولا عاقل آخر يقر بأية تجاوزات منسوبة للجهاز الأمنى أو خروقات فادحة فى طبيعة ممارسته لمهامه.
معادلة الأمن والحرية تستحق حوارا جديا ومعمقا وفق قواعد دولة القانون.
حتى الإجراءات الاستثنائية لها أصول دستورية منضبطة.
«الحوار على الحوار» يمهد لما بعده.
ربما يكون أهم من «الحوار الرسمى» وأكثر نفاذا وتأثيرا فى صناعة التاريخ.
إقرار قيمة الحوار العام يغير فى المعادلات ويفسح المجال الطبيعى للتفاعلات أن تعلن عن نفسها.
استبعاد لغة الإقصاء والتخوين والنهش فى السمعة والأعراض يساعد فى خفض «تسمم المجال العام».
وهذه مسئولية الرئيس إذا أراد لدعوته أن تمضى فى مسالك آمنة جديرة بالثقة والاحترام.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة